شهدت السنوات الأخيرة زيادة كبيرة في عدد الأكاديميين وصانعي السياسات، الذين أعلنوا أن مقترح حل الدولتين لتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني غير قابل للتطبيق، وهو المقترح الذي تم إضفاء الطابع الرسمي عليه في السنوات التي تلت توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993. وتبرز أهمية ذلك في ضوء تغير السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجيوستراتيجية، فضلا عن الأحداث الفاصلة، مثل المناوشات العديدة بين غزة وإسرائيل، وهيمنة حزب الليكود في الانتخابات الإسرائيلية، وانتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة عام 2016. ومع تزايد الشكوك حول تطبيق حل الدولتين، بدأ عدد من المراقبين السياسيين للمرة الأولى منذ تسعينيات القرن العشرين في السعي لإيجاد حلول بديلة، ومن بين هؤلاء «ادوارد ب. ديجيريان» من «معهد جيمس بيكر» للسياسات العامة، و«مروان المعشر» وزير الخارجية الأردني الأسبق، و«ناثان ج. براون» من «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، بواشنطن؛ في تقرير تعاوني بعنوان: «حل الدولتين أم حل الدولة الواحدة؟.. إعادة تقييم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني» سعوا من خلاله إلى تقديم نظرة شاملة في الاحتمالات الحالية لتنفيذ حل الدولتين ومدى مصداقية البدائل المتاحة. وبصفته دبلوماسيا أمريكيا، خدم في ثماني إدارات أمريكية، قدم «ديجيريان» استنتاجا غير مبشر لاحتمالات نجاح مقترح حل الدولتين في الوقت الحالي، مستشهدا بثلاثة عوامل رئيسية؛ العامل الأول: التغيرات الجيوسياسية، وأهمها عداء الرئيس ترامب تجاه المصالح الفلسطينية، والإعلان عن مبادرات مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية لدى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وخفض ميزانية المساعدات الفلسطينية، ما أدى إلى فقدان ثقة الفلسطينيين في أمريكا وفي نفس الوقت تشجيع إسرائيل على حرية التصرف مع افتراض الإفلات من العقاب. العامل الثاني، تزايد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية. فعلى الرغم من عدم مشروعية المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية بموجب القانون الدولي، فإن زيادة عدد المستوطنين إلى 600 ألف في الضفة الغربية قد تؤدي إلى تقويض السيادة الفلسطينية. أما الثالث، فهو انخفاض تأييد حل الدولتين بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ففي إسرائيل، أصبحت الحكومة الائتلافية التي يتزعمها بنيامين نتنياهو معادية بشكل متزايد لفكرة إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، بعد أن نجحت في ترويج أن هذا الحل يشكل تهديدًا لأمن إسرائيل. علاوة على ذلك، كشف «ديجيريان» أن 35% فقط من الإسرائيليين يؤيدون إبرام اتفاق مع الفلسطينيين قائم على حل الدولتين، واستعادة حدود الرابع من يونيو عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فقد انعكس هذا الاتجاه داخليا من خلال اتجاهين؛ الأول: فقدان الثقة في إسرائيل كشريك سلام بسبب جهود السلام الفاشلة المتعاقبة، عزز من ذلك استطلاع الرأي الذي أجري في ديسمبر 2017 وأثبت أن 89% من الفلسطينيين الذين شملهم الاستطلاع يعتقدون أن إسرائيل طرف غير جدير بالثقة، الثاني: الخلافات السياسية الداخلية والتي أحدثت حالة قلق والتشكك في القدرة على تحقيق الاستقرار. ومن هنا، تناقص دعم حل الدولتين، فقد أشار «المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية» لشهر يونيو 2017 إلى اقتناع نسبة 53% من الفلسطينيين بفكرة حل الدولتين، والتي انخفضت إلى 46% بحلول ديسمبر 2017؛ جراء المبادرات التي أعلنها «ترامب» حول القدس. ومع ذلك، يشير «ديجيريان» إلى أن العامل الأخير ليس ثابتًا؛ نتيجة تمتع الرأي المحلي بمرونة كبيرة تجعله قادرا على التغير في السنوات القادمة، فقبل أن ينخفض إلى 43% في عام 2017 كان الدعم الإسرائيلي لإقامة دولة فلسطينية قد بلغ الذروة بنسبة 58% في عام 2010 مع إعراب نتنياهو عن دعمه لحل الدولتين. فيما كانت النسبة نحو46% فقط خلال عام 2008، ما يثبت أن المبادرات المطروحة لديها القدرة على إعادة تنشيط حماس حل الدولتين. ومع تزايد العداء بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كما يقول «ديجيريان» يبدو أن الصيغة القائمة ستستمر في المستقبل المنظور، ما يمثل في المدى القصير والأطول «صيغة لعدم الاستقرار تقوض مصالح الطرفين». وتمثل هذه الفكرة أساس افتراضات «مروان المعشر» و«ناثان جيه. براون»، والتي تسعى لاستكشاف بدائل حل الدولتين. وبالنسبة إلى الجهات الفاعلة الدولية، يظل حل الدولة الواحدة غائبا عادة عن دائرة المبادرات المطروحة. وعلى الرغم من عدم وجود دعم دولي؛ فإن المؤلفين يضعان مقترحاتهما في ضوء الاتجاه المتنامي بين الإسرائيليين والفلسطينيين لصالح تفضيل مثل هذا النهج. حيث ارتفع الدعم الفلسطيني بين عامي 2001 و2010 إلى شكل من أشكال حل الدولة الواحدة من 20% إلى 24%، قبل أن يرتفع مرة أخرى عام 2017 إلى 33% تقريبا ممن استطلعت آراؤهم. فيما ازدادت النسبة بين الإسرائيليين من 21% إلى 33% في ديسمبر 2017. ويزداد هذا الرقم بشكل أكبر بين الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل تحديدًا، حيث وصفه 50% بأنه خيارهم المفضل. وتشير هذه الرؤية إلى تحول تركيز ناشطي الحقوق المدنية والسلام بعيدا عمن يؤمنون أنه مفاهيم عظمى عتيقة عن السيادة، نحو تركيز أكبر على الأزمات اليومية التي تواجهها الضفة الغربية وغزة. ويرى الباحثان: «أن الأجيال الناشئة تمر بمرحلة من النضج السياسي، من خلال التركيز على الحقوق بشكل أكبر». وبالمثل، فإن الإسرائيليين مهتمون بالتهديد المحتمل للأمن القومي الذي تفرضه دولة فلسطينية مستقلة، ومع ذلك فهم يرغبون في رؤية نهاية الاحتلال المُكلف لهم اقتصاديا، والمدمر والمثير للانقسام سياسيا على المستوى الدولي، ما يجعلهم ينظرون إلى حل الدولة الواحدة كطريقة يُمكن من خلالها التوفيق بين كل تلك الآمال. ولعل من الفوائد الأخرى المحتملة لاندماج كل من إسرائيل وفلسطين في دولة واحدة بشكل ما؛ أن يتم حل العديد من المشاكل العالقة مثل؛ «النكبة والتهجير القسري عام 1948»، والتي كانت سببا في فشل جميع محاولات عمليات السلام المتعاقبة، حيث سيؤدي هذا الحل إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى دولة مشتركة، وليست إسرائيلية فحسب. والأهم من ذلك، وربما من الناحية الأكثر واقعية، هو الاعتراف بحقيقة الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي حدث بين الكيانين منذ أربعينيات القرن العشرين، ما سيوفر بطبيعته انتقالاً أكثر سلاسة من مجرد الالتزام والتقيد بحدود صلبة بينهما. وبحسب تقرير «داليا شايندلين» في مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية فإن «القدس يعد نموذجًا يشيد بأهمية هذا النهج وضرورة تبنيه»، فضلا عن أن أماكن عمل ما يصل إلى نصف القوى العاملة الفلسطينية التي تقطن مناطق القدس الشرقية توجد في القدس الغربية، أو في مناطق أخرى متفرقة من إسرائيل، ما يجعل مسألة التقسيم (أو الدولتين) ضربة اقتصادية هائلة. وعلى الرغم من ازدياد الدعم لنموذج الدولة الواحدة، فإنه لا يزال من غير الواضح الشكل المحدد الذي سيتبعه عمليا. وتكمن أكثر مظاهر هذا النموذج في وجود مجتمع ذي «شخصية واحدة، وصوت واحد على حد سواء» ما يضمن المواطنة المتساوية والحقوق الديمقراطية لجميع المواطنين. وعلى الرغم من أن السهولة الإدارية لتطبيق هذا النموذج وقبوله لدى بعض المراقبين، فإنه ربما يكون أقلها احتمالاً، فالتاريخ الطويل للصراع وانعدام الثقة بين الجانبين من شأنه أن يديم التنافس على الموارد الداخلية، فيما يبدو من غير المتصور أن توافق إسرائيل على ذلك، لاعتقادها أن التوسع الديموغرافي للفلسطينيين؛ سيعمل على تقليص «يهودية» الدولة الإسرائيلية. وعليه، سعى كل من «المعشر وبراون» إلى طرح حل آخر يتمثل في تطبيق نموذج «ثنائي/ فيدرالي» يهتم بـ«الحقوق الفردية والمجتمعية» المتعلقة بكل من التقاليد العربية والإسرائيلية باعتبارها كيانات منفصلة . ولعل هذا النموذج هو ما أوصت به في البداية الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال قرار التقسيم الصادر عن 1947. وهو النموذج الذي سيرضي مصالح الطرفين من خلال تحقيق استقلالية لكل منهما من أجل الحفاظ على تميزها الثقافي والأيديولوجي. ومع ذلك، فإن هذا الحل، أيضًا لن يحل النزاع بشكل شامل، وبدلاً من ذلك، فإنه سيعمل على وجود كيان لدولة واحدة من دون معالجة العديد من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التاريخية والمعاصرة، مثل حالة عدم المساواة الاقتصادية للفلسطينيين، أو مخاوف إسرائيل من انتشار الإرهاب في الضفة الغربية وغزة. فضلا عن تخوف الفلسطينيين من أن يخضعوا لسيطرة هيكل الدولة الإسرائيلية الأقوى والأكثر ترسخًا، في حين يخشى الإسرائيليون مرة أخرى أن يتم تحجيمهم ديموغرافيا. وهناك اقتراح آخر يتمثل في نموذج «السيادة المشتركة» بمعنى وجود دولتين رسميتين إحداهما فلسطينية وأخرى إسرائيلية، ويتم تقاسم السيادة. ومن شأن هذا الشكل أن يعكس نموذج الاتحاد الأوروبي. ففي الوقت الذي توجد قضايا وأمور سيادية يتولاها الاتحاد، تبقى معظم الإجراءات خاضعة لولاية الدول ذات السيادة. وبحسب ما نشره «ماتياس موسبرغ» و«مارك ليفين» في مقالهما في صحيفة «هافينجتون بوست» الأمريكية عام 2014: «ستحتفظ كلتا الدولتين بهويتهما المستقلة ورموزهما الوطنية وهياكلهما السياسية، لكنهم سيكونون متميزين في ضوء انعدام الحدود الداخلية، والسماح بحرية الحركة والوصول إلى الأراضي والموارد والفرص الاقتصادية». وعلى الرغم من أن هذا الحل يعتبر حلا وسطا بين حل الدولتين وحل الدولة الواحدة، فإنه يظل محل انتقاد، ففكرة تقاسم السيادة بين إسرائيل وفلسطين تبقى مثالية، فمن الناحية العملية، فإن تفاصيل مثل كيفية تنظيم الأمن وكيفية إملاء السياسة الخارجية تجعل هذا الحل غير قابل للتطبيق في السياق الحالي المشوب بالاستقطاب واحتمالية عودة الصراع مجددًا. وعلى نطاق أوسع، يفشل نموذج السيادة المشتركة في الاعتراف بتفاصيل أساسية في النزاع مثل: «انعدام الثقة بين الطرفين». فمنذ عام 1947. كان من المستحيل التوفيق بين مصالح كلا الطرفين، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية. ومن ثمّ، لن تؤدي فكرة إنشاء دولة واحدة إلا إلى إطالة عمر خلافاتهما. على العموم، قدم التقرير نظرة موضوعية عن حل الدولتين على الرغم من عدم القدرة على تطبيقه في الوقت الحاضر، حيث يظل هو القادر على التغلب على حاجة كلا المجتمعين، الفلسطيني والإسرائيلي، للتمتع بالحقوق السيادية. ومع ذلك قدم كل من «المعشر وبراون»، مناقشات جدية وواضحة عن البدائل الأخرى المحتملة من خلال استخدام مجموعة واسعة من الأدلة النوعية والكمية، وهو ما جعل هذا التقرير ذا أهمية كبيرة، بعدما تم تجاهل القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة. لكن في نهاية المطاف، يبقى الإخفاق في الكشف عن ضعف خيار الدولة الواحدة ومثاليته الطاغية ما يهدد السلامة الأكاديمية لعملهم البحثي.
مشاركة :