ماكرون بين مطرقة «السترات الصفر» وسندان الاتحاد الأوروبي

  • 1/4/2019
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

ما كاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحاول التخفيف من غلواء نموذج دولة الرفاه الاجتماعي، الذي أثقل كاهل الحكومة، بعدما أفضى إلى انعدام المرونة في سوق العمل بفعل ضغوط النقابات، كما أسفر عن هروب المستثمرين بعدما باتت الضرائب على الأرباح التجارية والضرائب على الدخل في فرنسا هي الأعلى أوروبياً، حتى اضطر إلى التراجع تحت وطاة احتجاجات «السترات الصفر»، معلناً حزمة إجراءات اقتصادية مرهقة، صادق عليها البرلمان، في مسعى منه لتعزيز القدرة الشرائية للفرنسيين واحتواء الغضب الذي اجتاح البلاد، شملت زيادة الحد الأدنى للأجور، وخفض الضرائب على الفقراء، وتشجيع القطاع الخاص على زيادة المرتبات، من دون أن يتحمل أرباب العمل أية كلفة إضافية، وإلغاء الضرائب على ساعات العمل الإضافية اعتباراً من عام 2019 وإلغاء الزيادات الضريبية على معاشات التقاعد لمن يتقاضون أقل من ألفي يورو شهرياً، فضلاً عن ضخّ عشرة بلايين يورو لتخفيف الضغط الضريبي وتنمية القدرة الشرائية. ويبدو أن مقاصد احتجاجات السترات الصفر قد تخطت تقويض خطط ماكرون ومشاريعه الرامية إلى الإجهاز على دولة الرفاه الاجتماعية عبر تحميل المواطنين قسطاً من المسؤولية وتهيئة الأجواء لجذب الاستثمارات الخارجية، لتطال تصحيح ما تعتبره خللاً فجاً في العلاقة بين بلادهم والاتحاد الأوروبي، والتي يتحفظ كثير من الفرنسيين عليها منذ البداية، حين صوَّتوا ضد اتفاقية لشبونة بنسبة 54.67 في المئة في استفتاء 29 أيار (مايو) 2005، لكن النخبة التي كانت تقود البلاد وقتئذ والتوَّاقة للتغلغل في أعماق المشروع الاندماجي الأوروبي إلى أبعد مدى بقيادة الرئيس السابق ساركوزي ما لبثت أن وقعتها، بعد تمرير نواب البرلمان لها. فإلى جانب تدخله في مختلف شؤون حياتهم، يعاني العمال الفرنسيون أعباء توسيع الاتحاد الأوروبي باتجاه الشرق ليضم دولاً منخفضة الدخل كثيفة السكان، مثل بولندا ورومانيا، الأمر الذي أدى إلى منافسة قاسية في سوق العمل الفرنسية من جانب العمال القادمين من دول شرق أوروبا، حتى أضحى الفرنسيون يشكون تراجع النمو الاقتصادي وتجاوز معدل البطالة نسبة 10 في المئة، فضلاً عن تنامي نفوذ المؤسسات العابرة للقوميات، وركود الاقتصاد الوطني، وظهور مجتمعات مهاجرين جديدة، واختفاء الصناعات القديمة وما كانت توفره من وظائف. وترافقت مخاوف الفرنسيين المتنامية على مستقبل بلادهم مع تحديات جديدة تحاصر الاتحاد الأوروبي، مثل اقتراب الموعد النهائي لخروج بريطانيا منه في نهاية آذار (مارس) المقبل من دون التوصل لاتفاق متكامل في هذا الصدد، وتعاظم حالة عدم اليقين بشأن الوضع الاقتصادي لإيطاليا واليونان، إضافة إلى استمرار المد الشعبوي وتفشي النزعات القومية المتطرفة في عدد من البلدان الأوروبية، مع اقتراب موعد إجراء انتخابات البرلمان الأوروبي في آيار (مايو) المقبل وسط أجواء من الارتباك والتشظي في المواقف والسياسات الأوروبية، وصولاً إلى اضطراب المشهد الأمني في ظل تفاقم التصدعات وتجدد التوترات في العلاقات الأميركية الأوروبية إبان عهد ترامب. وبناء عليه، لم يبد الفرنسيون ترحيباً بطروحات ماكرون فيما يتصل إصلاح الاتحاد الأوروبي، الذي وصفه بأنه ضعيف جداً وبطيء جداً وغير فاعل، حيث قدم خلال خطابه في جامعة السوربون في باريس في أيلول (سبتمبر) 2017، سلسلة مقترحات لتوثيق عُرى التكتل بعد خروج بريطانيا منه، من قبيل تعزيز الدفاع والأمن الأوروبيين عبر إنشاء «قوة تدخل سريع أوروبية مشتركة»، واعتماد موازنة عامة وميزانية دفاع مشتركة، وتبني «عقيدة مشتركة» للتحرك، وتعيين وزير مال لمنطقة اليورو، وأكاديمية أوروبية للاستخبارات، ونيابة أوروبية لمكافحة الإرهاب، وقوة مشتركة للدفاع المدني لمواجهة الكوارث الطبيعية، ومكتب أوروبي للجوء، وشرطة أوروبية للحدود، وإنشاء وكالة أوروبية للإبداع قادرة على تمويل مجالات بحث جديدة من تلقاء نفسها، فضلاً عن فرض ضريبة جديدة على عمالقة التكنولوجيا مثل «فايسبوك» و»أبل»، باعتبار أنهما لا يدفعان ضرائب كافية على أنشطتهم في أوروبا. وعلاوة على أزمة النموذج الديموقراطي الأوروبي التي سلطت الضوء على أهمية الحاجة إلى ابتكارات خلَّاقة لمعالجة الفجوة بين تفكير السلطة وتطلعات الشعوب، على شاكلة الديموقراطية التشاركية، يرى خبراء فرنسيون أن حل أزمتهم لن يتأتى إلا من بروكسيل وليس باريس، عبر تغيير القواعد والسياسات المالية للاتحاد الأوروبي، خصوصاً إبقاء عجز الموازنة عند 3 في المئة، بما يضغط على الحكومات الأوروبية ويدفعها للتضييق على شعوبها مخافة تجاوز العجز لهذه النسبة. ومن هذا المنطلق، دافع عدد من وزراء الحكومة الفرنسية عن قرارات ماكرون لاحتواء احتجاجات «السترات الصفر»، معتبرين أن لذلك أولوية على قواعد الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالميزانية، التي تتعين مناقشتها مع الشعب الفرنسي، وليس مع الاتحاد الأوروبي. ورغم اعترافه بأن إجراءات ماكرون لاسترضاء المتظاهرين قد تزيد بشكل موقت من عجز الموازنة الفرنسية، أكد ريتشارد فيراند رئيس الجمعية الوطنية/ البرلمان الفرنسي، أن استقرار فرنسا من شأنه أن يصب في مصلحة أوروبا. غير أن إجراءات ماكرون، وإن ساعدت على تهدئة الشارع الفرنسي، ولو مرحلياً، إلا أنها قد تراكم الأعباء على كاهل الرئيس من جهتين: أولاهما، أنها تطرح تساؤلات مثيرة بشأن مدى إمكان تنفيذها وما يستتبعه ذلك من كلفة باهظة، إذ توقع الناطق باسم الحكومة الفرنسية بنيامين غريفو، أن تكبد تلك الإجراءات فرنسا ما بين ثمانية وأحد عشر بليون يورو. وبينما كان يتوقع رئيس الجمعية الوطنية ريشار فيران، العضو في الحزب الرئاسي، أن يصل عجز الموازنة الفرنسية خلال العام 2019 إلى 2.8 في المئة وذلك قبل إلغاء الضرائب التي كان مقرراً فرضها على المحروقات، توقع مسؤول في الحكومة الفرنسية أن يبلغ ذلك العجز 3.5 في المئة، ليتجاوز الحد الذي وضعه الاتحاد الأوروبي عند 3 في المئة. وثانيتهما، أنها تضع ماكرون في مواجهة مباشرة مع الاتحاد الأوروبي، إذ أعلنت المفوضية الأوروبية، التي تراقب الأوضاع المالية لأعضاء الاتحاد، أنها ستعكف على دراسة تأثير إجراءات ماكرون على الميزانية الفرنسية، لاسيما وأن الرئيس الفرنسي ليس مطلق العنان في ما يتخذه من قرارات لاحتواء الاحتجاجات في بلاده، كون الاتحاد الأوروبي شريكاً أساسياً له وربما الشريك الأكبر والمهيمن في عملية صنع السياسات واتخاذ القرارات الاقتصادية. وبالتالي، لا يرى خبراء فرنسيون سبيلاً للخروج من هذا المأزق سوى استعادة فرنسا لقسط وافر من سيادتها واستقلاليتها التي انتزعها منها الاتحاد الأوروبي، الذي كان ماكرون يتغنى قبل أيام من تظاهرات «السترات الصفر» بمزايا العضوية فيه، حينما أشاد خلال كلمة له أمام البرلمان الأوروبي في مدينة استراسبورج الفرنسية، بالتكامل الأوروبي، الذي اعتبره السبيل الوحيد لاستعادة السيادة، ومواجهة التحديات العالمية كالهجرة والتغير المناخي والاقتصاد الرقمي المتنامي، وتفاقم الخطر الإرهابي والصراعات الخارجية وغيرها، مؤكداً أن «الادعاء بأن العودة للسيادة الوطنية على حساب القوى المشتركة للاتحاد الأوروبي سيوفر للناخبين الطمأنينة التي يحتاجونها في عالم من السلطات المستبدة، هو محض أوهام». في رحم ذلك الارتباك الفرنسي، الذي دفع بوزير الخارجية البولندي ياتسيك تشابوتوفيتش، على خلفية احتجاجات «السترات الصفر» التي تخللها هجوم ستراسبورغ الذي أوقع خمسة قتلي بينهم بولندي، إلى وصف فرنسا بـ»رجل أوروبا المريض»، بدأ يتخلق ما بات يعرف بتيار الـ»فريكسيت»، أو الدعوة إلى خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي والانعتاق من سيطرة بروكسيل المستفزة على القرار الفرنسي، إذ أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد «يوغوف» الألماني على عينة من الشعب الفرنسي، أن 33 في المئة ممن شملهم الاستطلاع، سيصوتون لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، حال إجراء استفتاء على ذلك. وكأن أعباء عضوية فرنسا في الاتحاد الأوروبي لم تكتف بتأجيج احتجاجات «السترات الصفر» فحسب، وإنما أبت إلا أن تغل يد الرئيس ماكرون حتى في مسعاه لاحتواء تلك الاحتجاجات واسترضاء الجموع التي ما برحت تطالبه بالرحيل، على رغم التنازلات التي قدمها ولا يزال. من جانبه، وبعدما أكد خلال رسالته لمناسبة العام الجديد التي وجهها عبر خطاب متلفز من قصر الإليزيه، على ضرورة اضطلاع الحكومة بعمل أفضل لتحسين حياة المواطنين، لم يفوت الرئيس ماكرون الفرصة لمطالبة جموع الفرنسيين بـقبول الواقع، مذكراً إياهم بأنهم يعيشون في كنف دولة تمتلك واحداً من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم، كما تتمتع ببنى تحتية تعد من بين الأفضل عالمياً، وتوفر لمواطنيها خدمات اجتماعية متميزة بأسعار تنافسية، إذ لا يدفعون إلا القليل أو لا شيء تقريباً لقاء تعليم جيد، وتلقي علاج عالي المستوى على أيدي أطباء ممتازين. • كاتب مصري

مشاركة :