د. لويس حبيقة* هنالك خوف من التضخم بل خوف أكثر من حدوث فقاعات جديدة تدفع العالم نحو الركود أو السقوط كما حصل في سنة 2008 هنالك قلق حول مستقبل النظام الاقتصادي الرأسمالي. النتائج السابقة ليست جيدة لكن المشكلة تكمن خاصة في غياب البدائل الواقعية المبنية على أسس سليمة ويمكن أن تعطي نتائج أفضل. هل يمكن معالجة أي داء بالوسائل والعلوم والأفكار التي سببت حصوله؟ أم يجب التفتيش عن أدوية جديدة تعالجه وتمنع تكراره في المستقبل؟ هل يمكن القول: إن النظام الاقتصادي الحر فعلاً انتهى؟ هل المطلوب اليوم قيود كبيرة أمام تحرك السلع والخدمات والأموال وربما أمام الأشخاص؟ هل المطلوب ضرب بعض الحريات كما يطالب به بعض القادة الأوروبيين ويمارسه بوضوح دونالد ترامب ويظهر أن الرئيسين الجديدين في البرازيل والمكسيك يرغبان به. هنالك موجة جديدة من القلق والحذر تريد دفع العالم باتجاه معارض لاتفاقيات الوحدة والتعاون وتطالب بإغلاق الحدود بين الدول. حتى بريطانيا اليوم وبعد «بريكست» ستضع قيودا أمام تحرك الأوروبيين إليها وهذا ما لم نشهده منذ عقود طويلة. العالم يتغير بسرعة سلبا، لكن السؤال الأهم هو هل هذا التغيير مؤقت أو دائم وبالتالي هل سيتشدد أكثر فأكثر؟ ما هي الوقائع التي يعاني منها العالم والتي سببت هذه الانتفاضات الانتخابية في أمريكا وثورة «السترات الصفراء» في فرنسا ومنها إلى بلجيكا وغيرها؟ ما الذي يقلق المواطن العادي ويدفعه إلى التصرف بعنف وخوف دون حساب للخسائر والأرباح؟ أولا: توسع فجوة الثروة والأخطر الدخل. لا شك أن للعولمة منافعها الكبيرة في زيادة النمو والإنتاج وتقريب المسافات بفضل الاتصالات والنقل، إلا أن الفقير لم يستفد من النمو كالغني وارتفعت الفجوة. هذا غير مقبول اليوم في وقت يرى المواطن كيف يعيش غيره ولا يفهم لِمَ عليه التضحية كي يعيش الآخر في بحبوحة أفضل. لم يعد عرق الجبين يعطي المادة كما كان في الماضي البعيد، بل أصبحت الثروة تأتي أكثر بكثير من الصفقات والفساد والابتزاز والاحتيال. لم يعد الفاسد يستحي في العلن بل يتجاهر بفساده حتى عبر الإعلام، إذ إن المؤسسات والقوانين لا تطبق في أكثرية الدول والأزمنة. كم تكلم العالم عن الجنات الضرائبية وأوراق باناما وغيرها من الأماكن التي يخبئ فيها الأغنياء الأموال المكتسبة بالطرق المختلفة ولم يتم أي حساب أو عقاب؟ السلطات الرسمية مقصرة تجاه الفاسدين، ربما لأن تضارب المصالح يسيطر على مراكز القرار في معظم الدول حتى لا نقول جميعها. هنالك من يتكلم اليوم عن «عنف المال» أي تحصيل الثروة بكافة الطرق ومهما كانت الأثمان حتى لو وقعت الضحايا في البيئة والأرواح والمادة. ثانيا: هنالك سوء توزع للادخار والمال أفرز انتخاب دونالد ترامب ويؤدي إلى تصرفات «السترات الصفراء». هنالك دول ومناطق في العالم تدخر الأموال وفي مقدمها مناطق شرق آسيا وأخرى تنفق الكثير وتقترض من آسيا وأهمها الولايات المتحدة والغرب الأوروبي عموما. هذا التغير في الهيكلية الادخارية العالمية أنتج سوء توازن في القوة والنفوذ لم يعرفه العالم منذ الحرب العالمية الثانية. فالغرب مثلا لا يرى لماذا ينتج ويصدر العلم والتكنولوجيا لمناطق أصبحت أغنى منه؟ لا يفهم لماذا عليه أن يعطي أكثر مما يحصل؟ هل على الغرب حماية الدول أمنيا وسياسيا واقتصاديا وفي الوقت نفسه تقع التكلفة المالية عليه؟ هذا رأي ترامب ويطالب أوروبا بدفع ثمن الحماية الأمنية. هذا سبب رغبة ترامب بالانسحاب من بعض المناطق التي لا يرى فيها فائدة من البقاء، ولا يوجد من يقوم بتسديد التكلفة مقابل المخاطر والجهد والوقت. ما يفعله ترامب اليوم بشأن الانسحابات الأمنية والعسكرية يغير معها السياسات الأمريكية القائمة منذ الحرب العالمية الثانية والتي حافظ عليها جميع الرؤساء الأمريكيين من جمهوريين وديمقراطيين. ثالثا: السياسات النقدية السابقة المرتكزة على الانفلاش أي فوائد منخفضة شجعت على المضاربات والمغامرات في السوق محدثة فقاعات مالية أنتجت أزمات كبيرة كل عشر سنوات تقريبا. سببت الفوائد المنخفضة تهوراً في الاستثمار أي تفضيل الربح السريع على النتيجة الطويلة الأمد. أحدثت الأزمات بطالة كبيرة، فلا بد من وضع سياسات نقدية معاكسة أي ترفع الفوائد كما يحدث اليوم من قبل المصرف المركزي الأمريكي. هنالك خوف من التضخم بل خوف أكثر من حدوث فقاعات جديدة تدفع العالم نحو الركود أو السقوط كما حصل في سنة 2008. رابعا: تحققت الرأسمالية على وقائع الجشع أي على الرغبة في زيادة الغنى والمنافع مهما كانت التكلفة. أصبح الإنسان الفرد كالماكينة التي يجب أن تستمر في التحرك لجني المال دون أن يشعر الإنسان بلذة إنفاق ما جناه. هنالك هدف مادي طغى على الأهداف الأخرى منع الإنسان من تذوق لذة الحياة فأحس دائما بالغضب وعدم الرضى أي أفقده لذة العيش والاستمتاع بالغنى الماضي. أصبح هنالك سباق على الثروة التي يجب أن تكون وسيلة لتحسين مستوى المعيشة والعيش براحة وهدوء وسعادة. * كاتب أكاديمي لبناني
مشاركة :