النصر مع الهزيمة.. هل تصح المعادلة؟!

  • 1/6/2019
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

أمة مهزومة، ودين متقدم..هل تصح المعادلة؟! المسلمون اليوم أمة متخلفة مهزومة بمقياس العصر، فهل كانوا كذلك وهذه حالهم دائمًا؟! تخلف الأمة الإسلامية اليوم أمر لا خلاف عليه، والشواهد عليه كثيرة لا حصر لها، وأسباب هذا التخلف أيضا واضحة لا يمكن أن يختلف عليها اثنان، والسؤال الذي نطرحه اليوم في ظل معادلة لا تتفق مقدماتها مع نتائجها، وهذه المعادلة: كيف تكون الأمة على هذا القدر من التخلف، ثم يكون دينها على هذه الدرجة العظيمة من التقدم، ثم كيف لا يؤثر هذا الدين بانتصاراته التي شهد لها العدو قبل الصديق، كيف لا يؤثر هذا الدين في الأمة المتخلفة، فيأخذ بيدها إلى النصر والتقدم؟! أسئلة لا بد من طرحها على أنفسنا في سياق النقد الذاتي، ومحاسبة النفس قبل أن يحاسبنا الآخرون. هناك حقيقة يجب علينا أن نعترف بها أولاً، وهذه الحقيقة أن الأمة الإسلامية لم تكن هذه حالها على الدوام، فقد كان لها تاريخ مجيد، وحضارة كان لها فضل عظيم على الحضارات التي سبقتها والمعاصرة لها، وذلك حين قام المسلمون بترجمة كتب اليونان إلى العربية، وأخذت أوروبا عنها هذه الكتب التي أسهمت في نهضة الحضارة المعاصرة، وواصل الغرب الإبداعات العلمية من حيث توقف العرب المسلمون، وإلى زمن ليس بالبعيد كانت كتب علماء الإسلام من أمثال:ابن سينا، والرازي والبيروني، والخوارزمي، والزهراوي، وغيرهم هي مصادر المعرفة في جامعات أوروبا، ومنها أخذت أوروبا أساس حضارتها. لقد كان القرآن الكريم هو المعجزة الوحيدة الباقية من معجزات الأنبياء، وهو المصدر العظيم لنهضة المسلمين عندما استقبلوه كمصدر ومحفز للإبداع، ومن ينكر الدعوة المبرورة التي وجهها القرآن إلى المسلمين من أجل تدبر آياته وسوره، قال تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت(17) وإلى السماء كيف رفعت(18) وإلى الجبال كيف نصبت(19) وإلى الأرض كيف سطحت(20) ) الغاشية. لم يكن السؤال في هذه الآيات من سورة الغاشية عن هذه المخلوقات ب(لماذا) بل جاء السؤال عنها ب(كيف)، وهو سؤال خاص بالبحث العلمي، ومطلوب من أهل الاختصاص في كل فرع من فروع المعرفة أن يجيبوا على هذه الأسئلة، بل لقد ذهب القرآن في الدعوة إلى العلم والانشغال بفنونه إلى أبعد من ذلك حين دعا علماء بعينهم ممن شغلهم البحث في هذه العلوم، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28))فاطر. إن القرآن الكريم حين اختص الباحثين في علوم الإنسان، والحيوان، والنبات، والسماء والأرض، وحدهم بالخشية من الله تعالى لأنهم وحدهم الذين اطلعوا على بعض أسرار الكون، وعلموا القوانين والسنن التي تحكم هذه المخلوقات، ومن ثم فهم أولى الناس بالخشية من الله تعالى لأنهم أدركوا حقائق الوجود، وأن هذا الوجود لا يمكن، بل مستحيل أن يأتي صدفة، ولابد له من خالق عليم حكيم قدير، وأن قمة العلم وأقصى غاياته الإيمان بالله تعالى إلهًا واحدًا لا شريك له، وأن العلم الذي لا يبلغ هذه الغاية لا يسمى علمًا، بل هو شيء من المعرفة الناقصة. ولما أدرك المسلمون هذه الإشارات العلمية، وبحثوا في مآلاتها، وعملوا بمقتضاها تحولوا من أمة أمية إلى أمة صاحبة حضارة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً في الحضارات السابقة على الإسلام، ولن يشهد بمثلها في الحضارات اللاحقة، ذلك لأن حضارة الإسلام حضارة إنسان، وأما الحضارات الأخرى، فهي حضارة بنيان، وأيضًا لأن الحضارة الإسلامية بُنِيَتْ على القيم الأخلاقية، والمبادئ والقيم الراسخة الباقية، ألم يقل رسول الله(صلى الله عليه وسلم): «إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق» رواه الإمام مالك. لقد صنعت الحضارة الإسلامية الإنسان على عين الشريعة الإسلامية التي وصفها الحق سبحانه وتعالى بالكمال حين قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا..) المائدة/3، ولذلك لا نستغرب أبدًا أن يبلغ تسامح الإسلام بالآخر من أهل الملل الأخرى، واعترافه بحقوقهم على المسلمين قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولَم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) الممتحنة/8. إذن، فالإسلام يأمر أتباعه أمرًا واجب النفاذ بأن يبذلوا البر على سعته وشموله إلى الآخر الذي سالمنا ولَم يخرجنا من ديارنا، ولَم يظاهر على إخراجنا، الإسلام يأمرنا بأن نحسن إليهم ونبرهم. بهذه القيم الرفيعة سادت الحضارة الإسلامية، وبلغت ما بلغته من سمو ورفعة ميزها عن غيرها من الحضارات، إذن، فالمسلمون لم يكونوا متخلفين طوال تاريخهم، بل كانوا أمة متقدمة ناهضة حين جعلوا القرآن الكريم مصدرًا لنهضتهم، وأساسًا لتقدمهم، فلما فكوا ارتباطهم بالقرآن تخلفوا وسبقهم غيرهم. هذه هي حال الأمة الإسلامية اليوم، أما السر وراء تقدم الإسلام وانتصاره، فمن أسبابه أن هذا الدين قد بلغ حد الكمال المقدر له، والإسلام حين نطلقه على ما نعتقد، أو يطلقه علينا الآخرون هو الشريعة التي أنزلها الله تعالى على رسوله محمد(صلى الله عليه وسلم)، والتي وصفها الحق سبحانه بالكمال، فقال سبحانه: (..اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا..) المائدة/3. والشريعة حين تبلغ الكمال لا تحتاج إلى غيرها، هذه واحدة من الأسباب في تقدم الإسلام رغم تخلف الأمة، أما السبب الثاني، فإنه العناية العظيمة التي كفلها الحق سبحانه وتعالى للمحافظة على القرآن الذي هو مصدر الأمة في تقدمها وانتصاراتها بأن أحاطه بسياج من الحصانة تتهاوى أمامها كل معاول الهدم، وتبوء بالفشل كل محاولات التشويه، قال سبحانه: (إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر/9، وقال جل جلاله في سياق رد كل محاولات تحريف وتشويه نصوصهم المقدسة: (... وإنه لكتاب عزيز(41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد(42) ) فصلت. ومن أسباب تقدم الإسلام من دون الحاجة إلى تقدم الأمة، وانتصاره حتى في حالة هزيمة الأمة، العهد الذي أخذه الله تعالى على نفسه بأن يظهره الله تعالى على الدين كله، قال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) التوبة/33. في هذه الآية الجليلة حقائق ينبغي الإيمان بها، ومن هذه الحقائق أن الله تعالى أرسل محمدًا (صلى الله عليه وسلم) بالهدى ودين الحق، وهذا يعني أن ما أنزل على رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) هو الشريعة الكاملة، والنعمة التامة التي ليس هناك استدراك عليها، فيها من الثوابت في آيات الأحكام ما يستغني بها عن غيرها، وذلك في مجال العقيدة والعبادة والأخلاق، وفيها من التيسير في تفويض الرسول (صلى الله عليه وسلم) والأمة من بعده بالاجتهاد في إصدار التشريعات الملائمة لكل عصر، وتفويض الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام جاء في قوله تعالى: (..وما آتَاكُم الرسول فَخُذُوه وما نَهَاكُم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) الحشر، وبمقتضى التفويض الإلهي لرسوله (صلى الله عليه وسلم) فوض الرسول أمته، فقال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه مسلم. ولهذا فلا عجب أن تكون الأمة متخلفة مهزومة، وأن يكون دينها الإسلام متقدما منصورا لأن أسباب نصره نابعة من ذاته، وأما تقدم الأمة وتخلفها، فكل ذلك مرتبط ارتباطًا وثيقا بمدى قربها أو بعدها من كتاب الله تعالى، ومنهاجه القويم، فإذا أخذت به، وحافظت عليه تقدمت وانتصرت، أما إذا أعرضت ونأَت بجانبها عنه تخلفت وانهزمت، وبدل أن تتصدر المشهد الحضاري، وتقود ركب الأمم كما فعلت في الماضي صارت في مؤخرة الركب، وبعد أن كانت حضارتها هي الغالبة أصبحت مغلوبة. من هنا ندرك أن المعادلة التي تحدثنا عنها في بداية المقال رغم أنها تبدو غريبة وغير صحيحة للوهلة الأولى، إلا أنها بالمعنى الذي شرحناه صحيحة ولا غرابة فيها.

مشاركة :