لاحظْنا منذ سنوات أن خطاباً عنصرياً يبرز إلى السطح ويكتسح الفضاء العمومي التونسي ويتوجّه أساساً نحو سود البشرة. لم ينجُ من هذا الخطاب العنيف والإقصائيّ لا الأسود التونسي ولا الأسود الإفريقي، ويمكنك رصدُ هذا الخطاب الصّادم خاصة في وسائل النقل العامة أو مؤسسات الخدمات السريعة. والغريب أنّ "التوانسة" يرفضون الحديث فيه أو طرحه للنّقاش مصادرين بذلك أيّ خطاب تفكيكيّ له جازمين أنهم لم يكونوا يوماً عنصريّين مع أنّ العادات الاجتماعية والسلوكيات تقول عكسَ ذلك. والحقّ أن الجهل بالخطاب العنصريّ ذاته عمّق تفشّي هذا الخطاب، فليس هناك أيّ ومضات توعوية في الإعلام التونسي تنبّه إلى شيفراته وطرق اشتغاله. ونتيجةً للخطاب الإعلامي الرسميّ الخاضع لسلطة الدولة الشمولية التي أبقت مواضيعَ كثيرة مصادرة، ومنها التمييز ضد الأقلّيات الإثنية والدينية واللونية. وأيّ تطرّق لها يصنّف ضمن المحاولات الدنيئة والمشبوهة لتشويهِ صورة البلاد، وضرب أمنِها وسِلمها المدني. فكيف يمكن التشكيك في مجتمعٍ يعرض نفسه في العالم حسب الخطاب الدعائيّ السياسيّ الرسميّ على أنه جنة التسامح والمعجزة السياحية، أن يكون فيه مثل هذه التشوّهات المجتمعية؟ تبدأ العنصرية ضد الأشخاص سود البشرة من خلال النظرة. وهنا يختزلها الفيلسوف "دفيد لوبروتون" في تفكيكِه للجسدِ الغربيّ ضمن كتابه "انثروبولوجيا الجسد والحداثة"، في قوله: "إن النظرة هي اليوم الشكلُ المهيمن على الحياة الاجتماعية في المدينة." وعبرها تتحدّث طبيعة العلاقات بين البشر، ويمكنك أن تلحظ هذا الرفضَ للآخر الملوّن والأسود تحديداً بمجرّد مراقبة النظرة الموجهة له من طرف الآخر المهيمن في الشارع التونسي، والتي تتحوّل إلى حالة ازدراء يولد خطاباً عنصرياً مقولاً، بعد أن كان مشهديّاً وسيميائياً، وأحياناً ميكروفزيائياً. ويتجلّى هذا الخطاب العنصريّ في الاعتداء على الاسم العلَم بتغييبه ومحوِه؛ فالعنصريّ لا يرضى بأن تحافظ الذاتُ موضوع العنصرية المختلفةُ لونياً عنه، على اسمها، ولذلك يبادر بمحوِِ اسمِها لإضعافها. فلا يمكن أن تتحقّق في غياب الاسم إلا من خلال جسدِها، وهنا يختزل فينومينولوجيا الذات في لونها، وانطلاقاً من اللون يبدأ في إطلاق الكنى والنعوت المثيرة للسخرية، كـ"الكحلوش" و"الوصيف"، و"الكحلة" و"الكحلوشة" و"شوشان"، وقد يلتجئ إلى التهجين اللغوي والاستعانة بلفظةٍ أجنبية لتحقيق أهدافِه كالاستعانةِ بالكلمة الأجنبية العنصرية "النيقرو"، وكلّها إشارات تختزل الإنسان إمّا في لونِه أو بالإشارة إلى تاريخِه العبودي. وعندما تواجه التونسيين بذلك يجيبون أن ذلك الخطابَ، خطابٌ مرحٌ، ولا نية للاستنقاص من السّود، بل أحياناً يدّعون أن ذلك اشارة إلى قربِهم منهم ومحبّتهم لهم. أذكر أنني وُلدت في قرية كان جدّي يسمّى "النيقرو"، لأنّه كان شديد السُّمرة. وهكذا هم يلحقون الكنى العنصرية حتى بالبيض غير الخالصين، وكأن السُّمرة والسّواد، وهمٌ مصابون به. حاولت في أعمالي القصصية والروائية أن أشير إلى هذا التمييز فكان أحد أبطال روايتي "المشرط" يدعى" النيقرو"، بينما خصّصت روايتي "الغوريلا" لمناقشة هذه المسألة بأكثر وضوحاً. والرواية تتحدّث عن ثورة مواطنٍ تونسيّ أسود سقط في الانحراف بسبب ما مارسه ضدّه المجتمعُ الذي دفعه بهذه العنصرية المقيتة منذ كان رضيعاً في ملجأ إلى أن أصبح كائناً اجتماعيا ضديداً. منذ سنة 2011، ومع سقوط النظام الشّمولي وانتشار الجمعيّات الحقوقية والمدنية من ناحية، وتفاقم ظاهرة العُنف ضدّ سود البشرة في تونس عبر أحداث متتالية موجّهة ضد الأفارقة أو التونسيين، بدأ الموضوع من ناحية ثانية يتحوّل إلى موضوع مثير في الإعلام التونسيّ، ولفت انتباهَ الفنّانين والكتاب والنقّاد. وتجدر الإشارة إلى أن موقع "أوان" الثقافيّ والفكري كان قد فتح الملفّ وأصدر كتيّباً جُمعت فيه مجموعة مقالات حول العنصرية ما قبل الثورة التونسية. ولكن يبقى كتاب محمد الهادي الجويلي، "مجتمعات للذاكرة، مجتمعات للنسيان: ما هي آثار العبودية في تونس؟"، الصادر عام 1994، أحدَ أهمّ البحوث الرصينة التي حاولت تفكيك هذه الظاهرة عبر دراسة مونوغرافية لأقلّية سوداء في الجنوب التونسي، وهي منطقة "عبيد غبنتن"؛ إلى جانب بحوث المؤرخ الهادي التيمومي حول الأقليّات الإفريقية السوداء بتونس وعتق العبيد. لكنّ هذه البحوث ظلّ أثرها البسيط عند بعض النخبة المختصة، ولم يكن لها أيّ أثر في التفكير التونسيّ. والحق أن النخبةَ نفسَها لم تتداولها بالذّكر أو بالتبنّي إلا نادراً. وظلّ الفضاء العام محكوماً بهذه النظرة الدونية للأسود وإنكارها في آن. لم تكن صرخة الفنان صلاح مصباح وهو يدخل غرفةَ العمليات منذ شهر على صفحة في وجه العالم بأنّ شيئاً من العنصرية والتهميش يدمّر هذا الوطن، ويطلب دفنه في بلدٍ آخر إذا ما مات تحت العملية، مجرّدَ صرخةِ شخصٍ مبالِغ. يقول صلاح مصباح: "أصدقائي الأعزّاء، محبّيَّ، وكلّ من أحببت! أنا على أهبة لإجراء عملية جراحية، ربما نلتقي بعدها، و ربما لا نلتقي، فتلك مشيئة الواحد القهار، ولا اعتراض عليها. اسمحوا قرّائي الأفاضل أن يخاطبكم صلاح مصباح الفنّان، لأنّ الإنسان لا تعرفه إلا قلّة قليلة ممّن عاشروه بعمق. إن قدّر الله وفاتي، سيتولّى بلدٌ إسلامي نقلَ جثماني ودفني بعيداً عن هذه الأرض التي أحببت. حاولت مراراً وتكراراً أن أهديكم أحلى ما عندي، سواءً كان عن طريق الأجهزة الثقافية أو الإعلامية، لكنّ قُوى العنصرية والحقد كانت أقوى منّي بكثييييير. ستعدم كلّ أعمالي بعدي حرقاً و بطلبٍ منّي، وسيبقى عملٌ وحيدٌ أردته أن يكون آخرَ هدية منّي لكلّ من أحبَّ وأخلصَ لهذه الأرض الطيبة." ومهما تكن هذه الوصية من أمر صدقٍ أو عدمه، فإن الأمر يحتاج وقفة، فصلاح مصباح سبق وأن اتَّهم مجتمعَه بالعنصرية في مناسبات كثيرة. ولم تكن مظاهرات الايفواريين في العاصمة تونس بعد مقتل رئيس جمعية الايفواريين في تونس، حالة من الفونتازم الإفريقي، وحنيناً إلى التظاهر الإفريقي ومعانقة الشارع في زرافات، بل ربما مناسبة لكي يعبروا في الشارع عن ظاهرة تفشّت، وأصبحت مقلقلة. وقانون تونس ضدّ التمييز الذي صادق عليه البرلمان منذ شهور قليلة، إضافة إلى أنه إنجاز كبير لتونس، هو اعتراف بأنّ التمييز موجود، وهكذا تخرج تونس الدستورية من خارطة الحظر؛ حظر الحديث في موضوع التمييز حسب العرق أو اللون. ولعلّ ما تعرّض له مقدم النشرة الجوية، الشابّ الأسمر في القناة الوطنيّة الأولى، من هجومٍ عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، لدليل آخر على أن هناك مشكلاً ما. ويقف في وجه هذا الموضوع ومصادرته، إنكارُ كلٍّ من العروبيين والقوميين، والتقدّميين أحياناً لكون التهمة، حسب تقديراتهم، موجهةً للثقافة العربية، وليست للتونسي وحسب؛ وتأتي مصادرة الموضوع من قبل التقدّميين باختفائهم وراء لافتات الوطنية المقدّسة، وضرورة ستر العورات الوطنية، للحفاظ على صورة تونس البلد المتسامح والقدوة، حتى أنّ طرح مواضيعَ مثل التمييز أو حتى الفقر كان يعتبر في عهد إلرئيس بن علي قرينةَ الإساءة لصورة تونس في الخارج، وهكذا ظلّ الأسودُ وقضيّته في الهامش، موضوعاً محجوزاً في غرفة يمنع فتح نافذةٍ عليها. وقد ظلّ بلدُ أوّل قانون لعتق العبيد، وإلغاء الرقّ يحشر هذا الموضوع في غرفةٍ مظلمة، ويلاحق من يفتحه إمّا بالقمع أو التجويع والتهميش. لكنّ الفن والأدب والفكر يحاول مرة أن يفتح كوى ليدخل منها الضوء؛ فقد تناولت المخرجة والإعلامية مبروكة خذير، موضوعَ التمييز ضدّ السّود في فيلمها "أحفاد العبيد"، وكشفت مظاهرَ هذا التمييزِ عبرَ فِرَق السطانبالي، وعادات بعض المناطق في جنوب تونس، والتي دفعت ببعضهم إلى نبذ السّود حتى في النقل العام، وتقسيم أسطول الحافلات إلى حافلات للسّود، وأخرى للبيض. وكشفتْ مبروكة خذير عبر الوثائقيِّ الذي تناول منطقة سيدي مخلوف تحديداً، أنّ تعمّد الصّمت وعدم الحديث في الموضوع يتعدّى السلطة والبيضَ، ليشمل السّود أنفسهم، الذين يرفضون الحديث فيه لأسباب كثيرة، منها الخوف على أنفسِهم والخوف على البلاد من الفوضى بسبب عدم جاهزية المجتمع لمناقشة مثل هذه المواضيع؛ ليبقى السؤال: ماذا يمكن أن تفعلَ الدساتير والقوانين والآداب والفنون أمام العادات والأعراف؟! هذه التدوينة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي رصيف22. كمال الرياحي روائي وناقد - إعلامي تونسي. مدرب ورشات الكتابة الابداعية. kamelriahi.wordpress.com كلمات مفتاحية العنصرية تونس سود البشرة التعليقات
مشاركة :