ما زالت الدولة طفلاً يتيماً ضائعاً في لبنان. لا يعرف أحد مَن يمثلها ولا كيف تعمل ولا مَن هم المسؤولون عنها وفيها. ما زالت منبوذة وقت الشدائد ومرغوبة في أثناء تقاسم الغنائم. ولا يرجع ذلك إلى عجز اللبنانيين عن تعيين دولتهم وتحديد مهماتها ووظائفها، بل يعود بالأحرى إلى صميم تركيبة النظام اللبناني وآلية عمل الطبقة السياسية في هذا البلد.آخر ما ظهر في هذا المجال ما قاله وزير المال (في حكومة تصريف الأعمال) علي حسن خليل في أثناء تفقده يوم الثلاثاء الماضي، أضراراً تسبب بها فيضان نهر الغدير في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث اعتبر أنه «أمام دولة عاجزة عن اتخاذ قرارات جذرية». كان الكلام ليصح لو صدر عن ناشط بيئي أو عن معارض عنيد للسلطة اللبنانية. بيد أن التصريح جاء على لسان وزير مخضرم في الحكومات منذ أكثر من عشر سنوات وعن ممثل لحزب سياسي (حركة «أمل») يشارك في كل التشكيلات الحكومية منذ سنة 1984 عندما تولى في تلك السنة رئيس الحركة نبيه برّي حقيبة وزارة شؤون الجنوب.والخليل ليس وحيداً بين نظرائه الوزراء في النأي بنفسه عن «الدولة العاجزة». فبين الحين والآخر يخرج جبران باسيل وزير الخارجية ورئيس «التيار الوطني الحر» «وتكتل لبنان القوي»، وهو التكتل النيابي الأكبر في البرلمان، من بين مناصب ومهام أخرى يتولاها، ليندد بفساد الطبقة السياسية اللبنانية وليدين سلوكها معلناً أنه وحزبه ومَن يمثل لا ينتمون إلى الطبقة تلك ولا يقولون قولها ولا يفعلون فعلها.وإذا أُضيفت إلى هذين الاسمين لائحة طويلة من المغردين على «تويتر» من السياسيين والنواب والوزراء وقادة الأحزاب والمنظمات المسلحة والمعبأة للاستجابة الفورية والعنيفة لأقل إهانة تطال زعماء يعتبرون أنهم من أصحاب الكرامات، يبدو التساؤل عن الأشخاص الماديين والمعنويين الذين تتكون منهم الدولة اللبنانية.ليس في الأمر خطل ولا زغل. ذاك أن السياسيين اللبنانيين يدركون طبيعة الدولة التشاركية التي يحكمونها وتتيح لهم الانضواء فيها والخروج منها ساعة يشاءون. فعند الملمّات، حتى الصغيرة منها كفيضان نهر الغدير في الضاحية الجنوبية، يسع السياسي اللبناني إلقاء اللوم على «دولة» يسيّرها آخرون ويستفيدون منها ويحرمون أهل السياسي المعنيّ وعشيرته - طائفته من الخدمات الضرورية التي تقيهم غدر الشتاء. وعندما تتغير الظروف يعلن السياسي ذاته تمسكه بالنواجذ بمكتسبات الجماعة وحقوقها وامتيازاتها ولو كره الكارهون. فهذا شيء وذاك شيء آخر في سياق البنية المرنة للدولة التشاركية.يتأسس التناقض هذا على انفصال عميق بين مفهومي الحقوق والواجبات التي ينبغي أن يتشارك المواطنون في أدائها والتمتع بها سواء بسواء. فالأولى (الحقوق) تعود إلى الجماعة، والثانية يتعين على الأفراد القيام بها. الغُنم للطائفة والغُرم على الفرد. وعند حلول استحقاق يتطلب حضور «الدولة» بمؤسساتها وهيئاتها وأجهزتها، غالباً ما تتلكأ هذه بالظهور بسبب قلة فاعليتها وكفاءتها واستشراء الفساد فيها على نحو يَحول دون تصديها لعملها. عندها يسهل على السياسي التوجه إلى جمهوره بخطاب الضحية التي تعاني من تمييز «الدولة» ضدها.ينهض هنا من جديد السؤال عن مكونات هذه الدولة ومحدداتها إذا كانت القوى الرئيسية المشاركة في حكوماتها وفي السيطرة على إداراتها العامة ومجالسها المنتخبة، تستطيع إنكار أي صلة لها بـ«الدولة» من دون أن يرفّ لها جفن. عليه، يبدو السؤال الهزلي الذي يتندر اللبنانيون به مع كل حادث «أين هي الدولة؟» في غير محله، إذ ينبغي أن يكون «مَن هي الدولة؟» خصوصاً في ساعات الشدائد والصعوبات.والحال أن الدولة في واحد من تعاريفها، أداة إدارة الصراع في المجتمع لمصلحة الطبقة المسيطرة. ويفضي تعدد الجهات والطبقات التي تتقاسم السيطرة بمعانيها السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية، إلى تعدد «الدول» في جسم الدولة المفترض أن يكون واحداً، نظرياً على الأقل.ويفتح التعدد هذا باب تهرب السياسيين من تحمل المسؤولية عن تصرفات «الدولة» ككل وعن نهجها وسياساتها العامة. فهذا التكتل غير معنيٍّ بالمسائل الأمنية التي يديرها طرف منافس، وذاك الحزب منصرف إلى الشؤون الاستراتيجية الكبرى بحيث لا يطيق انشغالاً بمسائل من نوع الأزمة الاقتصادية وما يدخل في بابها من «الصغائر». لكنّ التيار والحزب لا يجدان غضاضة في تبادل الاتهامات بالتقصير والتسيب والفساد، ما دامت الاتهامات تلك تجد الصدى المطلوب عند جمهور منغلق على نفسه ومقتنع بصواب رأيه وعصمة قادته الذين يزورونه أيام الفيضانات والانتخابات.ستبقى هذه الدولة «الواحدة المتعددة»، الحاضرة والغائبة معاً، عصيّة على التعيين بذات قدر استعصاء صوغ وعي وطني للبنانيين رغم تفاقم وطأة مآسيهم.
مشاركة :