عندما خاطب الرئيس عبدالفتاح السيسي المصريين طالباً منهم أن لا يصغوا إلى حديث غير حديثه، لم يكن ذلك إلا تعبيراً عفوياً عن اعتقاد راسخ بأن قوة الدولة تكمن في إحكام سيطرتها على حركة مجتمعها، وإشرافها الكامل على سلوك مواطنيها، ما يعني لعب دور الأب الوصي على سلوك العائلة، فلا يسمع أحد الأبناء كلاماً سوى من رب العائلة، حتى لا يقع أسير التضليل والتزييف. هذا التصور كان قد ساد لدى العموم وانتشر بين الجماهير عشية 30 يونيو وأفضى إلى انتخاب المشير رئيساً بإجماع نادر، ومن دون أي تزوير، اعتقاداً بأن الحاكم القوي هو الأقدر على تحقيق صلاح الأمة، خصوصاً إذا ما كان رجلاً عسكرياً مشهوداً له بالوطنية والحسم والصرامة. استند ذلك التصور إلى مسلمة نظرية عامة، وإلى ضرورة مصرية خاصة. أما المسلمة العامة فإن القائد الفرد، المتحرر من ضغوط الآخرين، أقدر على اتخاذ قرارات صعبة من نظام ديموقراطي تعددي، يقوم على أحزاب متصارعة، وينطوي على جماعات ضغط متحفزة، ما يجعل إدارة الشأن العام نتاجاً لعمليات تفاوض دائم، كما يجعل اتخاذ القرارات الكبيرة عملية صعبة وبطيئة، تفرض على القائد حدوداً وقيوداً. أما الضرورة الخاصة فرغبة عموم المصريين بتجاوز حالة السيولة السياسية المفرطة التي أعقبت 25 يناير، بفعل افتقاد الحدث الثوري للقيادة السياسية الناضجة، على نحو أفضى إلى اختطاف الحكم من «الإخوان» المسلمين. والواقع أن الصحة النظرية للمسلمة العامة لا تضمن صدقها الواقعي، كونها تحرم المجتمعات عموماً من حكمتها الواسعة، وخبراتها المتراكمة، لتقصر على شخص واحد قد لا يكون مدركاً ما يريده بالضبط، أو ربما على جهاز واحد يختفي خلفه ويحكم باسمه، الأمر الذي يفتح الباب على آفات سياسية ومهالك تاريخية ولو بعد وقت. كما أن الضرورة المصرية الخاصة لم تحقق غايتها بفعل المبالغة في ممارستها، فبدل امتصاص السيولة المفرطة لمصلحة تعددية معقولة، حصلت ولا تزال تحصل محاولات لقمع أي تعددية ممكنة، باختصار الدولة في مؤسساتها السيادية، خصوصاً الأمنية، مع إهمال جل المؤسسات التي تعمل خارج ذلك الإطار على رغم أن بعضها يعد من بنية النظام السياسي بالمعنى الواسع، كالأحزاب والنقابات المهنية والاتحادات العمالية، ناهيك عن شتى تشكيلات المجتمع المدني وأجهزة صنع الرأي العام. أحال ذلك النهج سريعاً أجهزة الدولة الأمنية إلى مستودع وحيد للحكمة السياسية، فالتجنيد للأدوار والوظائف العامة لا يتم إلا بمعرفتها. لأن البرلمان نفسه، بكل ممارساته الفولكلورية التي تتنافى مع عراقة تقاليده المتجذرة في قرن ونصف القرن منذ 1866، ليس إلا نتاجاً لقوانين انتخابية أشرفت عليها تلك الأجهزة. كما أن المشهد الإعلامي الراهن من صنعها، فلا رئيس تحرير لصحيفة قومية يتولى منصبه إلا بموافقتها، ضماناً لموالاته لها، ما ينطبق تماماً على الإعلامي الذي لا يستطيع البروز الجماهيري إلا برضاها، والأفضل أن يكون ضعيف المهنية، ليبقى مكسور العين أمامها، جاهزاً للعب الأدوار التي توكل إليه منها. من هنا، تنبع ظاهرة الرجال - الأدوات التي يكاد يضيق بها المسرح السياسي الآن، وهم يلعبون أدواراً تتفاوت أهميتها، ويثيرون ضجيجاً يتفاوت صخبه، بهدف لفت نظر الرأي العام إلى مواضع هامشية، بحيث يبدو أن متن الحياة السياسية انتقل إلى الهامش ليدور حول فقاعات هواء، فيما المسار العام والقضايا الكبرى، كسد النهضة وأزمات الاقتصاد وسياسة مصر الخارجية، خصوصاً إزاء سورية وليبيا، إما مغيبة أو باهتة، لا يدري أحد بدقة أين تناقش ومن يقرر مصيرها. وأفضى ذلك كله إلى انكماش تدريجي في مساحة الفضاء السياسي العمومي، واضطراب في الفضاء الثقافي الذي تسوده اتهامات متبادلة بالتطرف هنا والإلحاد هناك، وتضغط عليه قضايا الحسبة التي لم يتوقف رفعها، وسجن أهل الرأي الذي بات معتاداً، ومن ثم اختفاء ما يمكن تسميته «التيار الرئيسي» العام والعلني، القادر على قيادة المجتمع، لحساب مجالات ضيقة وسرية تتجاذبها الإشاعات السيارة، وأحاديث المؤامرات المفتعلة، التي يتم الترويج لها ولصقها بفاعلين في الداخل والخارج. يدفع بهذا الوضع إلى أفق مأسوي غياب أي وسيط سياسي بين الحكم والشارع، ما يدفع البعض إلى الترحم على الحزب الوطني الذي كان يرسم السياسات ويصوغ حس الاتجاه العام بمهنية، لينتج سياسات كانت ظالمة ومتحيزة، لكنها عكست انتظاماً وحركة نحو هدف مقصود، أقله حتى بدء الولاية الأخيرة للرئيس الأسبق، وهو ما لم يعد قائماً الآن. فالرئيس السيسي لا ينتمي إلى تنظيم يستند إليه في خطاب الرأي العام أو صنع القرار السياسي. وربما كان ذلك أمراً إيجابياً لو رافقه انفتاح على كل التيارات السياسية والفكرية، لانتقاء أفضل ما فيها. لكنْ مع تقريب نفر قليل من المستشارين ذوي الطابع العسكري والهاجس الأمني، واستبعاد القامات الكبيرة القادرة على التصور ومراجعة الحكم، وكان بعضها رسمياً أو فعلياً ضمن الحملة الانتخابية للسيسي، فقد انتفت آليات الوساطة الضرورية المطلوبة في الجسد السياسي، والتي يفترض أن تربط بسلاسة بين عظم الدولة الصلب، أي أجهزة القوة العارية، واللحم الطري والدماء الساخنة في المجتمع. فمن دون هذا تُجهض ممكنات الحوار السياسي الجاد وتنتهي أي فرصة لحدوث تغذية استرجاعية من المجتمع إلى الدولة، فينشأ وضع محفوف بالأخطار، قابل للانفجار في أية لحظة. * كاتب مصري
مشاركة :