لاقت رواية «بابا سارتر» لعلي بدر نجاحاً كبيراً عند صدورها بطبعتها الأولى عام 2001، لتصدر بعد ذلك بطبعات كثيرة بعد أن حازت على العديد من الجوائز وترجمت إلى العديد من اللغات. وقد وصفتها صحيفة «النيويورك تايمز» الأميركية على النحو التالي: «الرواية الساخرة والكاشفة لعالم كامل من الثقافة». ووصفتها صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية بأنها من أجمل ماترجم من الأدب العربي للثقافة الفرنسية. ولكن هذا النجاح كما تقول «النيويورك تايمز» هو نجاح في السخرية، إنها تقدّم المثقف العراقي على سبيل المسخرة، وربما بذلك ترصد جانباً من ثقافة السلطة، باعتبار بطلها «عبد الرحمن» مقرّباً منها. أقول ذلك لآخذ مقاصد الرواية على محمل النوايا الحسنة. ولكن الرواية لا تقدّم جوانب أخرى للثقافة العراقية، بل تكتفي بالسخرية ليس من الفلسفة الوجودية، وإنما ممن يدّعيها ولا يفهمها، معمّمة ذلك على العرب جميعهم. وربما من هنا – مع عدم اعتراضي على نشرها من قِبل أيّ دار- أتفهم رفض دار «الآداب» نشرها طالما لاتضيء الجوانب الإيجابية لتأثّر العرب بالفلسفة الوجودية مع أنّ هذه الجوانب لا تبدو فاعلة في تاريخ العرب الحديث كما رصدت رواية أخرى كُتبت قبل رواية علي بثلاثين عاماً وهذه الرواية القديمة لا تخلو من السخرية هي الأخرى ولكن برؤية تفهم الوجودية وتختبرها واقعياً، وأقصد بها رواية «الرجل الذي يأكل نفسه» لخليل النعيمي التي صدرت في بيروت عام 1972 بعد منع نشرها في دمشق عام 1971. كان يمكن أن أقارب رواية «بابا سارتر» من غير أن أتعرّض لاحتفاء الغرب بها، لولا أنّ ظاهرة جديدة تتمثّل باحتفاء هذا الغرب ولاسيما المستعمر الأميركيّ بعد احتلاله للعراق بنمط من الكتابة تظهر العراقيين والعرب متخلفين ومتوحشين ولا ينبغي التعاطف معهم كنوع من الاستشراق المعادي، ولكن المصنوع من لدن العرب أنفسهم هذه المرّة. ولا أجزم أنّ الروائي علي بدر كتب هذه الرواية في سياق هذا المنحى الاستعماري، بقدر ما حاول أن يستخدم مهارته السردية بشيء عابث، وعلى ما يبدو فقد نجح في كتابة سردية لافتة للقارئ ذي العقل السطحي، والذي يرغب بتبرير قلّة وعيه وثقافته من خلال السخرية أو التقليل من أهمية الوعي والثقافة. لا أرى أنّ عنصر التشويق في رواية «بابا سارتر» يعود إلى اعتمادها على الميتا سرد، أو كتابة رواية داخل رواية، فهذا شيء صار معروفاً، ومتداولاً بكثرة في السرد العربي، بعد استهلاكه في الأدب الغربي، بقدر ما يعود إلى اعتمادها على أدب التحري، أو على حبكة تكاد تكون بوليسية، وهي بهذا المعنى رواية تقليدية لا جديد في بنائها الفنّي، ولكن مع بعض الطرافة في جعل القيمين على هذا التحرّي أشباه مجرمين لا قانون حتى أخلاقيّ يحكمهم. فالعميلان المباشران اللذان وظفا الراوي لكتابة روايته؛ «حنا يوسف»؛ حفار القبور ذو السحنة المرعبة، وصديقته الخليعة «نونو بهار»، هما في الواقع دجالان فضائحيان؛ بوصف الراوي، ولم يكن ينقصهما حب الفلسفة ولا الفضائل المتحمسة ولا النبوغ, وإنما الشرف إذ كانا يعتمدان اعتماداً كلياً على مساوئ الأخلاق. وإنما قاما بذلك بتكليف من «صادق زاده»؛ وهو تاجر عراقي نصف مجنون، نصف معربد, وغير شريف بالمرة. وإنما اهتمام الثلاثة بسيرة «عبد الرحمن» قد لا يكون سوى امتداد لعبثيته ومجونه لا أكثر. أيضاً لا تنتمي هذه الرواية إلى التسطّح ما بعد الحداثي الساخر، كما يمكن أن توحي به طرافة شخصياتها، فهي لا تسائل الوجودية كحكاية كبرى - كما تفعل رواية خليل النعيمي، وتمكن العودة إلى دراستي عنها المنشورة في مجلة «نزوى»، العدد 91؛ للمقارنة- بقدر ما تحاكي شريحة من المجتمع العراقي الثريّ التي لا تعرف من الثقافة إلا عناوينها وصور مبدعيها. وهي لا تأخذ من هؤلاء المبدعين، طالما لا تكلّف نفسها متعة أو على الأقل عناء قراءتهم لضعف أدمغتهم، سوى سلوكهم الفوضوي وغرائبية أزيائهم وحياتهم الماجنة، وكان أوضح مَن يمثل هذه الشريحة في هذه الرواية هو شخصية «عبد الرحمن» الملقّب بفيلسوف الصدرية. يكتشف الراوي طفولة «عبد الرحمن» في عائلة ثرية مقرَّبة من الحكم وما سبَّبته له من اضطراب نفسي وشبق جنسي، فصار غريب الأطوار حتى أنه يسافر إلى فرنسا للحصول على دكتوراه في الفلسفة الوجودية ولكنه بدل ذلك يتزوج خادمة فرنسية ويعود بها إلى العراق مدعياً أنها ابنة خالة سارتر، ويتابع حياة اللهو والمجون بعيداً عن زوجته وطفلتيه إلى أن يكتشف أنّ مرافقه «اسماعيل حجوب» الذي كان يعيش حياة تشرّد ولصوصية قبل أن يصبح تابعاً له، يخونه مع زوجته فيقوم «عبد الرحمن» بالانتحار. ولكن لدى الراوي سبباً آخر لموت «عبد الرحمن» كأن يكون «أدمون» زوج «نادية» هو من قتله؛ لأنّ «نادية» لم تكن بِكراً كما اكتشف ليلة الدخلة وكان يعلم بعلاقتها مع «عبد الرحمن» لكنه لم يصدّق أنّ رجلاً آخر فعلها منذ كانت صغيرة. ومع إضفاء الطابع التروتسكي على عائلة «نادية» و»أدمون»، تتابع السخرية مجراها المعرفي في الثقافة العراقية وصراعاتها. ما هو أكثر عبثية أنّ الراوي لم يستطع الحصول على المال الموعود من «حنا يوسف» و»نونو بهار» رغم أنه احتاط بتصوير نسخة لنفسه مما كتبَه، غير أنّ الروائي علي بدر أراد أن يمضي بالعبث إلى آخره حين يمكّن «صادق زاده» من الحصول على هذه النسخة الثانية ليكتشف الراوي وهو تحت تهديد سلاحه أنّه «إسماعيل حجوب»، وهذا يعني أنّه لم يكن بحاجة إلى جهد الراوي في كتابة ما كتبه منذ البداية، مثلما نحن، أيضاً، لم نكن بحاجة إلى قراءته إلا إذا كنا من هواة تمضية الوقت بالعبث والتعرف على نماذج منه. أما لماذا أنا كتبتُ ما كتبتُه هنا، فربما للتحذير من أن قراءة هذا النوع من الروايات لا تفيدنا في معرفة الوجودية أو في كيفية نقدها، إضافة إلى أنّ الشريحة الثرية التي تتحدّث عنها صار لها وسائل أكثر سطحية وابتذالاً من ادعاء المعرفة والفلسفة للتباهي بها، ولاسيما مع اختراع التلفاز وقنواته الفضائية وما يدعمها من مواقع التواصل على الإنترنت!
مشاركة :