مستقبل السياسة والمجتمع في ضوء ثورة التكنولوجيا الرقمية

  • 1/11/2019
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

مع تزايد التطور التكنولوجي أصبح التغيير سمة أساسية في العالم كله على جميع الأصعدة، ولا سيما في المجال السياسي، حيث لا يخفى على الكثير العلاقة الوثيقة بين السياسة والتكنولوجيا؛ فهما وجهان لعملة واحدة، فالتكنولوجيا أداة أساسية ومحرك رئيسي لفعل السياسة، كما تحدد مصائر أنظمة بالبقاء والحضور القوي أو بالزوال. وفي عصرها المبكر مكَّنت دولا من احتلال دول أخرى عسكريا واقتصاديا، فضلا عن أنها خلال السنوات الأخيرة دفعت إلى تشكيل الحركات العمالية، ونجحت كوسيط ثوري وسياسي في حشد الآلاف في كثير من الثورات التي شهدتها مختلف البلدان، وأثرت في التواصل السريع بين كل بقاع العالم، وعلى القيم المجتمعية والعلاقات الإنسانية، فصارت تمثل ضرورة سياسية للدول المتقدمة، لأنه من دونها لن تتوافر الثروة مما يسقط الفعل السياسي وشرعيته. ونظرًا إلى تعدد التأملات والرؤى حول ما يُمكن أن يضفيه هذا العصر التكنولوجي الجديد من تحولات على السياسة الدولية؛ عقدت مؤسسة «هنري جاكسون» لأبحاث الأمن والسياسة الخارجية، بلندن، يوم 19 ديسمبر 2018. ندوة؛ بعنوان «سياسة المستقبل»؛ لمناقشة مستقبل السياسة والمجتمع في ضوء ثورة التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، لتحمل نفس العنوان الذي يحمله كتاب «جيمي سسكيند»، الباحث في مركز بيركمان كلاين للإنترنت والمجتمع في جامعة هارفارد البريطانية، المتحدث الرئيسي بالندوة، والذي عرض أهم أفكاره وسط لفيف من الأكاديميين والدبلوماسيين والإعلاميين، والمهتمين بموضوع الكتاب، مستخدما نهجا تحليليا مزودا بالأدلة التاريخية والسياسية. في البداية، ذكر «سسكيند» أنه على مر التاريخ أدت الابتكارات في العلوم والتكنولوجيا إلى إحداث تغييرات سريعة غيَّرت عالمنا بشكل كبير، ففي ضوء التحفيز السريع للتقدم التكنولوجي بعد الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، فإن القدرة على إحداث تحويلات في الاقتصاد والسياسة والمجتمع أصبح أمرا محوريا على مستوى العالم في دفع مسار التنمية البشرية. ومنذ تسعينيات القرن الماضي مع انتشار الإنترنت، أصبح العالم على أعتاب منحنى تاريخي مشابه للثورة الصناعية؛ والذي سيقودنا إلى نظام عالمي جديد يحكمه الذكاء الاصطناعي، وجمع البيانات الضخمة، فضلا عن مستوى غير مسبوق من الترابط التكنولوجي، وهو ما أطلق عليه «كلاوس شواب» الرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي، في تقريره عام 2016. «الثورة الصناعية الرابعة»، والتي كما يقول «كلاوس» «نحن نقف على حافة ثورة تكنولوجية ستغير بشكل جذري الطريقة التي نعيش بها ونعمل ونتواصل بها، وهو ما سيكون في نطاقه ومستواه وتعقيده مختلفا عن أي شيء شهدته البشرية من قبل». وانطلاقا من هذا، ركَّز «سسكيند» حديثه على تحديد التقدم التكنولوجي المتوقع أن يقود إلى تغيير ثوري على صعيد السياسة العالمية، في إشارة منه إلى ثلاثة تطورات رئيسية من المتوقع أن تُمثل الدافع إلى عصر سياسي جديد، وهي: أولا: أنظمة قادرة بشكل متزايد، ثانيا: تكنولوجيات متكاملة على نحو مُتزايد. ثالثا: مُجتمع كمي. ومن بين كل هذه الأسباب، ربما يكون العامل الأول هو الأهم، حيث يشمل الاستقلالية التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي، والتي لديها القدرة على تغيير المشهد السياسي للعالم أجمع. وفي سياق التأثيرات المتعددة للذكاء الاصطناعي، يختلف «سسكيند» مع مقولة «زولتان استفان»، محلل التكنولوجيا في موقع «فيردكت» البريطاني، الذي يرى أن «كل سنتين أو نحو ذلك، يضاعف الذكاء الاصطناعي من قدرته، وهذا النوع من النمو المتصاعد سيؤدي إلى ذكاء مفيد جدًا للإنسان»، فوفقا لـ«سسكيند»، يمكن لهذا النمو المتصاعد خاصة في كثير من العمليات السياسية، أن يؤدي إلى التغاضي عن الكثير من المشاركات البشرية، مثل؛ «تشريع السياسات، والإشراف القضائي، ووسائل الإعلام، والمجال البحثي»، حيث يمكن للأجهزة أن تتعلم إنجاز تلك المهام وتؤديها بشكل أسرع وأفضل من البشر. وعلى الرغم من أن هذا التقدم قد أثرى حياة الكثيرين إلى حد كبير، فإن أخطر آثاره السياسية هو الضعف الذي يمكن أن يُمثله كل من الأفراد والدول في حال ما كانوا هدفا لهجمات إلكترونية تسعى إلى تعطيل أنظمة الاتصالات والخدمات، ويدعم حديثه، بما قاله الجنرال «كريستوفر ديفيرل» قائد القوات المشتركة البريطانية، لـ«ديفنس جورنال» البريطانية، من أن روسيا من المتوقع أن «تستعد لهجوم إلكتروني واسع النطاق على البنية التحتية البريطانية، فكل نظام لدينا يتم التحكم فيه بطريقة ما من قبل الأنظمة التي بشكل أو بآخر لديها تلك التكنولوجيا». واستدل «سسكيند» من هذا على أنه من المُمكن أن يكون لهذا التقدم عواقب وخيمة للغاية بالنسبة إلى الكثير من الأنظمة أو حتى الأشخاص؛ أي إنه إذا كان يمكنك الحصول على تلك التكنولوجيا فيُمكنك أن تؤثر بها على من تشاء، وخاصة أن التأثيرات السياسية الناجمة عن التقدم التكنولوجي، تزداد خطورة مع طبيعة المجتمع الكمي العالمي، والذي يُعرِّفه «بأنه العملية التي تسنها الحكومات والأفراد ومجموعات المجتمع المدني والشركات الخاصة لجمع قدر هائل من البيانات الشخصية»، حيث يتم الوصول إلى الملفات الشخصية عبر الإنترنت لمستخدميه، وتحديدا من خلال حسابات مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، ثم يتم نشر هذه البيانات لخدمة أغراض سياسية، مثل البحث عن التجمعات السياسية، أو لعمليات مكافحة الإرهاب، أو تفهم الاتجاهات الديموغرافية. واستدل على رأيه بعدد من الأمثلة التي تم فيها التلاعب بالبيانات الشخصية للأفراد سواء من قبل الحكومات أو بعض الشركات، فعلى سبيل المثال: استند إلى ما قاله كل من «لاري دايموند»، مدير مركز التنمية والديمقراطية في جامعة ستانفورد بكاليفورنيا، والباحثة «آنا ميتشل» من معهد فريمان سبوغلي للدراسات الدولية بالجامعة ذاتها، في تقريرهما في مجلة «ذا أتلانتك الأمريكية»، من أنه وعلى الرغم من أن جمع البيانات قد أثبت أنه مفيد للحكومات على أساس الأمن القومي وتطوير السياسة، إلا أن الصين استغلت بالفعل مظاهر التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي واستخراج البيانات وتخزينها من أجل إنشاء ملفات تعريفية مفصلة عن جميع مواطنيها، ومراقبة ماهية السلوكيات والممارسات الجيدة وغيرها التي يرتكبونها، مشيرين إلى أن مثل هذه المراقبة الرقمية المتطورة تشكل تهديدا جديدا وخطرا لحرية التعبير على الإنترنت وقضايا حقوق الإنسان الأخرى في الصين. كما يشير إلى استخدام البيانات الشخصية من قبل شركات مثل؛ فيسبوك وتويتر؛ لأغراض شائنة، مثل نشر معلومات مغلوطة وأخبار زائفة، والأمر الأكثر أهمية هو إمكانية قيام الحكومات والدول المارقة باستخدام هذه البيانات لتوسيع المراقبة شبه القانونية أو غير القانونية بحق المواطنين. وفي هذا الصدد، ذكرت مجلة «ذا إيكونومست البريطانية» في تقرير لها عام 2016 «أن مراقبة الإنترنت وتوافر أكوام هائلة من البيانات حول كل هؤلاء المواطنين وأي شيء آخر، سيؤدي إلى التحول الجذري في ملامح العملية السياسية». وفي السياق الغربي في السنوات الأخيرة، يشير إلى الضجة التي أحاطت بانتخاب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عام 2016. «دونالد ترامب»، حيث تمكن عملاء محليون وأجانب من شن عمليات تضليل إلكترونية يتم على إثرها استغلال برمجيات ومعادلات آلية يستخدمها الفيسبوك لكي يقيس مدى جودة كل منشور يتم نشره على الفيسبوك، وذلك من أجل تقييمه ومن ثم إظهاره أمام المستخدم المناسب في الوقت المناسب وفي المكان المناسب في الصفحة الشخصية، وتغذيتها بالأخبار المضللة والمزيفة لتحفيز الناخبين على دعم «دونالد ترامب». وبالنسبة إلى «سسكيند» فإن ملامح التحول والتغيير الذي تولده التقنيات التكنولوجية باتت بمثابة نتائج جذرية تعكس فجر عصر سياسي جديد؛ يقبع فيه المواطنون تحت كنف الدولة، ويتزايد ضعفهم وخضوعهم لها بمرور الوقت. وفي هذا السياق، يعتقد أن الديمقراطية والحرية والعدالة هي القضايا الأكثر تأثرا وضررا بهذه التغييرات والتحولات، وطالما أن التقنيات التكنولوجية في حوزة السلطة، فإن أكبر التحولات ستُرى قريبا. بشكل أساسي، تستند حجته إلى الفرضية القائلة بأنه «نظرًا إلى اعتمادنا على التقنيات التكنولوجية ومدى قابليتنا للتأثر بها، فإن السلطة الحقيقية في العصر السياسي القادم سوف يتقلدها أولئك الذين سيمسكون بمقاليد السيطرة على جميع أنواع البرمجيات وبرامج النظم المتطورة»، ويتجلى ذلك من خلال القوة التي يتمتع بها أولئك الذين يتحكمون في تلك الخوارزمات الإلكترونية، سواء كانت تستهدف مجالات التكنولوجيا العسكرية أو وسائل الإعلام الاجتماعية أو برامج البنية التحتية، حيث يستطيعون إنشاء قواعد للبيانات، الأمر الذي لا يمكن معه السيطرة عليهم. وخلص في النهاية إلى حقيقة مهمة، وهي أن امتلاك أقلية من الشركات والمؤسسات خبرات في تطوير تلك الخوارزمات ونظم البرمجة المتطورة، يمكنها من أن تملي شكل وتكوين الحياة السياسية من خلال تقنيات تكنولوجية تتجاوز إدراك العامة، وما يزيد الأمر خطورة، هو أن معظم صانعي السياسة يفتقرون إلى المعرفة المتقدمة بالتقنيات التكنولوجية والأنظمة، ما يعني أنهم غير قادرين على ممارسة أي مراقبة على الشركات التكنولوجية الخاصة التي تشكل على نحو متزايد مسار السلوك السياسي. وعلى الرغم، من أن «سسكيند» قدم نظرة شاملة ومُقنعة عن الكيفية التي يمكن بها للتكنولوجيا الحديثة أن تغير الحياة السياسية بشكل جذري، فإنه فشل في توسيع نطاق تحليلاته إلى ما هو أبعد من العالم المتقدم؛ حيث ركز على وجه الخصوص على الدول الغربية، ولم يقدِّم نظرة ثاقبة عن كيفية احتمالات تأثير هذه التحولات وآفاق انتشار مثل هذه التقنيات على دول أقل تقدما في التطور التكنولوجي، ففي الشرق الأوسط على سبيل المثال، هناك الكثير من البلدان بعيدة كل البعد عن الاعتماد على تلك التكنولوجيا بالمقارنة بالدول الغربية، كما لم يتطرق إلى نتيجة استخدام مثل تلك التكنولوجيا المتقدمة بالنسبة إلى دول مزقتها الصراعات مثل اليمن والعراق وسوريا. ومع ذلك، فإن جلسة الأسئلة والأجوبة التي أعقبت كلمته عرضت المزيد من التبصر في منطق فرضيته حول «مدى التفاعل والارتباط بين التكنولوجيا والسياسة»، ومن بين أهم الأسئلة التي تم توجيهها له، هو توقعاته عن التأثيرات المحتملة لاستمرار تزايد وتيرة التشغيل الآلي خاصة في سوق العمل، حيث يتم الاستغناء عن القوة البشرية ويحل محلها الآلات، والروبوتات وبرامج الحاسب، وهنا يذكر أنه بعيدا عن جميع الديناميكيات والتأثيرات التي قد تخلفها التطورات التكنولوجية في المجال السياسي، فإن تلك القضية تحظى بأكبر نصيب من الاهتمام الأكاديمي، فمن المحتمل أن تؤدي إلى عواقب سياسية واجتماعية كارثية بسبب تفاقم مشكلة البطالة الجماعية، التي ربما تكون الخطر الأكثر شراسة على المدى القصير. على العموم، استطاع مؤلف كتاب «سياسة المستقبل»، «جيمي سسكيند» إعطاء نظرة ثاقبة مدروسة - وإن كانت قاتمة إلى حد ما - حول مدى التغيير في معدلات الأفكار والسلوكيات وأنماط الحياة التي سارعت بها التطورات التقنية، كما نجح في إظهار مدى إمكانية التكنولوجيا المعاصرة والمستقبلية في تشكيل الحياة السياسية في المستقبل القريب، وإن كان يؤخذ عليه جعل محتوى مناقشته يتمحور حول الغرب فقط، وعدم تطبيق أطروحته خارج حدود العالم المتقدم.

مشاركة :