صفحات مجهولة في حياة محمد سعيد العريان

  • 1/12/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يحتل الكاتب محمد سعيد العريان (1905- 1964) بجودة أسلوبه وقدرته على البحث والاستيعاب؛ مكانة متميزة في مصاف الطبقة الأولى من الأدباء والمفكرين في الأدب العربي الحديث. وقد صدر له حديثاً كتاب استعادي تحت عنوان «تحت الرماد» ضمن سلسلة كتاب «المجلة العربية» للباحث المصري وليد كساب، الذي كتب سيرة ذاتية مختصرة للعريان مشفوعة ببعض المقالات المجهولة للكاتب حصل عليها من أسرته ومن بطون الكتب والمجلات. ولد العريان لأب من خطباء ثورة عرابي، طاردته السلطات فترك القاهرة متوجهاً إلى طنطا (شمال مصر) حتى شمله عفو عام. ومن المحطات المهمة في حياة العريان صداقته للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي، ولم يكن من عادة الأخير أن يأنس لأحد بسهولة، فقد كان يعيش في عزلة نسبية في طنطا متفرغاً للكتابة والإبداع، ولم يكن الرافعي يعلم أنه على موعد مع تلميذ نجيب وفيّ سيرعى أدبه ويدافع عنه، في وقت أصبحت فيه رياح التغريب أكثر شراسة ضد كل ما هو أصيل. فمقام العريان من الرافعي وأدبه كمقام أبي يوسف وأبي الحسن الشيباني من أبي حنيفة النعمان وفقهه. لقد تأثر كل من المريد والشيخ ببعضهما، فالمريد وجد نفسه بصحبة رمز من رموز مدرسة الأصالة ينحى إلى التجديد وعدم تقديس كل ما هو قديم، كما عاين بنفسه كيف كان شيخه يقرأ ويكتب، وكيف يقاتل دفاعاً عن مبادئه. كما عثر الرافعي على سلواه في هذا الشاب الأديب الذي يندر وجود مثله فكان أذنه التي يسمع بها، ويده التي يكتب بها ومؤشر قبول ما يبدعه. ولا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن تعرّف الرافعي إلى العريان ومحمد حسن الزيات كان له أكبر الأثر في أدب الرجل؛ إذ أصبح خطابه موجهاً إلى القراء بعد أن كان موجهاً إلى نفسه وقد عبر الناقد محمد كامل حتة عن هذه الصحبة بقوله: «لقد أصبح الرافعي عريانياً، وقال البعض: بل أصبح العريان رافعياً». ومن يتأمل حياة العريان يجد أنه دفع ضريبة تعلقه بأستاذه الذي لم يكن محبوباً من المعسكر الحداثي وفي مقدمهم طه حسين. وبلغ التنكيل بالعريان مداه، حيث تم إقصاؤه من وزارة المعارف إثر خلافه مع وزيرها عبدالرزاق السنهوري. وكان من ثمار هذه المحنة ظهور كتابه «على باب زويلة»، تلك الرواية التي تناولت فترة من فترات تاريخ مصر المملوكي؛ وهكذا أهدى السنهوري من حيث لا يدري المكتبة العربية طرحاً أدبياً جديداً استلهم التاريخ وصاغه في قالب مشوق صار نموذجاً اقتفى كثير من الأدباء أثره. كما هاجمه اليساريون وتآمروا ضده، ولكنه لم ينزو؛ بل دأب وعكف على نشر أفكاره بكل جرأة في محاضراته في مناسبات مختلفة في الداخل والخارج. كان العريان ممن آمنوا بأهمية الكلمة والإبداع في صناعة الوعي لدى أمته، فأصدر قصته» الراية الحمراء» وقت أن كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني الذين رأى في هذه القصة تعريضاً به وتحريضاً عليه، فصدر القرار بمصادرتها ومنع طباعتها وتداولها. وانخرط العريان في الترويج للقومية العربية لكونها عاملاً من عوامل الوحدة ضد المحتل الأوروبي، وصاغ هذه الأفكار بلغة راقية حفظها أفراد الشعب رغباً ورهباً؛ حتى جاء اليوم الذي رأى فيه القائمون على الأمور؛ يريدون عروبة بلا دين. واستحضر كلمات ابن خلدون: «العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة». وقد رشحه كمال الدين حسين – نائب رئيس الجمهورية- لمنصب وكيل شؤون الأزهر من أجل تطويره والنهوض به، لكنه لم يستمر طويلاً في منصبه؛ لأنه كان يميل إلى التفرد بالسلطة، وهذا الميل انتهى به إلى إحالته للتقاعد، وإبعاده عن مؤسسات الأزهر كلها. ناهيك عن خلافه مع السلطة السياسية لإيمانه بضرورة توفير مناخ يكفل حرية التعبير، بعدما أضحى المعارضون مهددين في موارد رزقهم، وتساءل: وهل قامت الثورة إلا لتحرير الناس؟ أدرك العريان منذ عمل بالتدريس أن نهضة الأمة وخلاصها لن يكون إلا بتعليم النشء ورعايتهم رعاية خاصة ليكونوا لبنة صالحة في بناء ما تهدم من صرح حضارتها. وهو أنجز سلسلة «القصص المدرسية» مع زميليه أمين دويدار ومحمود زهران؛ لرفع الوعي لدى التلاميذ. كما دشّن أكبر مجلة متخصصة في أدب الطفل وهي مجلة «سندباد» التي ظلت تصدر عقداً من الزمان وجمعت بين عنصري التعليم والتشويق، واختار أفضل الرسامين للقيام بهذه المهمة وعلى رأسهم حسين بيكار. وظلت المجلة تمارس دورها الذي اختطه لها العريان حتى توقفت عام 1962 عقب خلافه الشهير مع السنهوري، في حقبة زمنية بالغة الصعوبة، شهدت تراجعاً كبيراً في الحريات ودعم الفكر الجاد. ويصدر العريان كتاباً ضخماً متعدد الأجزاء بعنوان «رحلات سندباد»، فتمنحه الدولة جائزتها التشجيعية في أدب الطفل عام 1963. لقد قست الحياة كثيراً على العريان، فزوجته التي أحبها، لم يطل بها المقام في حياة الناس كثيراً ، فغادرتها بعد نحو أربع سنوات من الزواج تاركة طفلاً رضيعاً لم يُكتب له أن يراها وبنتين صغيرتين غضتين لا تعيان شيئاً من أمور الحياة؛ فصار الزوج المكلوم أماً وأباً في الوقت ذاته، وعاش يعتصره الألم، وظل مرتدياً رابطة عنق سوداء حداداً على زوجته حتى مات. كتب العريان فصول مأساته التي أرَّقت القراء في المشرق والمغرب، فقال عنه أحمد أمين: «إن العريان يعذب القراء»، ووجه الشاعر عبدالرحمن صدقي اللوم إليه طالباً منه التصبر، ثم حدث ما لم يكن في الحسبان؛ فقد توفيت زوجة صدقي هي الأخرى؛ فكتب فيها رثاء جمعه بين دفتي ديوانه «من وحي المرأة»، وبعد سنوات طويلة أهدى الشاعر عزيز أباظة إلى العريان أول نسخة من ديوانه «أنَّات حائرة»؛ إذ توفيت زوجته هو الآخر فرثاها بهذا الديوان. لقد كان العريان ملهماً لمن حوله في الأدب، والأحزان أيضاً

مشاركة :