محمد سعيد العريان.. على باب زويلة

  • 1/16/2024
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

محمد سعيد العريان اسمٌ لا يعرفه الكثيرون اليوم، رغم أنه كان من كبار الأدباء والصحفيين، وأحد أبرز رواد الرواية التاريخية، إذ جمع فيها بين أمرين: أولهما: العرض الوافي المبين للأحداث دون تغييرٍ يبعد بها عن الحقيقة فيثير سخط المؤرخين، وذلك بعد القراءة الطويلة المتعمقة والبحث المتصل، مع التفكير فيما قرأ والاستنباط من المادة التاريخية المتوفرة لديه، ومن ثم توضيح رأيه في الأحداث واستخلاص الدروس التي يريد للقارئ أن يعرفها. والأمر الثاني: خيال الأديب، وهو عند العريان "خيال رزين غير جامح" وإنما إبداعٌ مُتْقَن يمس جمالُه القلوب ويَخْلُبُ الألباب، إبداعٌ يصور النماذج الإنسانية بما يبعث في القارئ أنبل العواطف ويحيي خلق "الرحمة" فهو بهذا يحقق الغاية من كل أدب، ألا وهي "التسامي"، إذ يسمو العريان بالقارئ فوق أوحال الحياة اليومية، ويأخذه من نفسه أثناء القراءة وبعدها، وينزع من قلبه صفات القسوة والحقد والبغضاء، لأنه يقدم له ما يرقق المشاعر ويوقفه على أحزان البشر فيدرك أنهم ليسوا سواءً في الشر، وأن فيهم من يستحق الشفقة لأن الإنسان ضعيفٌ بطبعه ويحتاج إلى الرحمة، ولذلك ليس من المبالغة القول بأن أدب العريان وكل أدب حقيقي لو أخذ حقه من القراءة لانتشرت بين الناس فضيلة "التراحُم".. ولأن الكلمة المكتوبة قد خبا ضوؤها، ولم يعد عليها إقبال في وقتنا الراهن، ولأن الجهالة قد شاعت في الأجيال الشابة بما يثير الحسرة في نفوس العلماء والمثقفين؛ فمن المناسب جدًا أن يعرف القراء هذا الاسم جيدًا محمد سعيد العريان وأن يُعُوا ما له من أهمية جعلت عميد الأدب العربي طه حسين يكتب مقدمةً ضافية لروايته "على باب زويلة" يقول في آخرها: "وإذا كان الناقد مستشارًا للقراء، وإذا كان المستشار مؤتمنًا كما يُقال؛ فإني أشير على القراء أن يقرأوا هذا الكتاب، فسيجدون فيه أدبًا رفيعًا وتاريخًا صحيحًا وتحليلًا دقيقًا وأسلوبًا رصينا". ومحمد سعيد عريان هو الأديب المولود في الثاني من ديسمبر/كانون الأول لعام 1905 صباح يوم عيد الفطر لأبٍ بلغ من الكِبَرِ عِتيًّا، إذ تقول المصادر أنه كان قد قارب التسعين من عمره! فلما وًلِدَ له كاتبنا سماه محمدًا على اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسعيد لأن الناس يهنئون بعضهم البعض في عيد الفطر قائلين: "عيد سعيد"! وكان والد كاتبنا من شيوخ الأزهر الشريف فلما نشبت الثورة العرابية اشترك فيها فألقى الخُطَب والأشعار، ولما دخل الإنجليز مصر تعقبوه ففر من القاهرة ثم وصل إلى طنطا على قدميه! وفي طنطا أصبح من شيوخ الجامع الأحمدي، واستقر في قريةٍ من قرى الغربية وهي "محلة حسن" التابعة لمركز المحلة الكبرى. وفي محلة حسن ولد العريان وتلقى علوم الدين منذ نعومة أظفاره، حتى أنه حفظ القرآن الكريم كله قبل أن يبلغ الحادية عشرة من عمره، وفي عام 1930 تخرج من مدرسة "دار العلوم" ليحظى بالعمل فور تخرجه في مدرسة "شربين" الابتدائية والتي انتقل منها بعد عامين إلى مدرسة "القاصد" في طنطا، وتستمر مسيرته المهنية بين صعودٍ وهبوط وابتلاءً وترَقٍّ، وكلها في أروقة وزارة المعارف التي أصبحت وزارة التربية والتعليم وقد نطيل على القارئ حين نعرض أمامه تفاصيلها، إذ قضى العريان معظم سِنِيِّ عمره في هذه الوزارة ما بين مدرس يعلم الطلاب وموظف كبير يتقلد المناصب ويكيد له الحساد فينخلع قلبه خوفًا على مستقبله إلا أنه يخرج من كل ابتلاءٍ منتصرًا وأقوى مما كان. على أن أهم شيءٍ مَهَّدَ له السبيل في حياته الأدبية هو علاقته بالأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي الذي أثَّر فيه وتأثر به، فقد تأثر العريان بالرافعي في اهتمامه باللغة العربية وجزالة اللفظ والإعجاز القرآني، وكفاحه من أجل العروبة والإسلام، وتأثر الرافعي بالعريان في تخلصه من العزلة عن المجتمع وهي عزلة فرضتها عليه إصابته بـ"الصمم" فكان سمعه ثقيلًا أو لا يكاد يسمع بالمرة، ولهذا كان العريان تلميذه وصفيه من دون الناس، وهو الذي جعله يتصل بالحياة والأحياء. وإلى جانب الرواية التاريخية ساهم العريان بإخلاص في أدب الطفل، حيث أصدر مجلة "السندباد" بهدف الارتقاء بوعي الطفل العربي وتنمية مداركه وتهذيب سلوكه وغرس الروح الوطنية والإيمان بالعروبة ولغتها "وعاء القرآن المجيد" وحب التدين فيه، وفي أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات كان له في الإذاعة حديث أسبوعي للأطفال، وخصصت الإذاعة المصرية فرقة لتغني أناشيده التي كتبها للأطفال، والتي من أشهرها "لغني، ديني، وطني" وهو النشيد الذي لحنه شيرين طاهر ونشيد "الوحدة" و"أنا العربي" الذي لحنه الموسيقار الشهير زكريا أحمد. ورواية "على باب زويلة" تمثل الرواية التاريخية في تاريخ أدبنا العربي خير تمثيل، فقد أراد فيها أن يعرض لنا طرفًا من تاريخ مصر، وهو تاريخ عسير يمتلئ بالحوادث حتى إنها لتشَوِّش على المؤرخين من كثرتها، فيستعينوا على هضمها بالقراءة المُكثَّفة والتركيز الشديد، ومن هنا ندرك حجم العناء العنيف الذي لا يحب أن يحتمل بعضه كثيرٌ من أدبائنا مع الأسف، فهم يكتبون أكثر مما يقرأون، ويستسهلون الخوض فيما يثير القارئ من الحكايات التي يُكْتَب مثلها بغير مشقة، أما العريان فإنه قد تعرض في "على باب زويلة" إلى زاوية تاريخية تحتاج إلى بذل المجهود في القراءة أولًا، ثم إلى التفكر فيما جعل الأمور تصل إلى ما وصلت إليه، حيث انهزم المماليك لا عن ضعفٍ ولا عن جهالة، وإنما عن خيانة، حيث خان بعضهم بعضًا وأسلموا مصر بانحطاط أخلاقهم لقمةً سائغةً للأتراك العثمانيين. وبعد هزيمة المماليك المُدَوِّيَة في "مرج دابق" حاول المصريون بقيادة سلطانهم طومان باي مقاومة الغازي العثماني، رغم أنهم وجدوا من المماليك ظلمًا كثيرًا، غير أنهم كانوا يفضلون أن تكون مصر دولة كبيرة مستقلة فيها مقر الخلافة وكرسي الملك على أن تكون ولاية تابعة للأتراك العثمانيين، لكن المقاومة اليائسة البائسة لا تجدي كثيرًا ولا قليلًا، لأن المماليك كانوا قد نَحُّوا الشعب عن كل الأمور الكبرى وسيطروا عليه وأفقدوه شخصيته المستقلة، ولم يعتمدوا عليه في تدبير شؤون الدولة، ولم يهتموا بإرضائه ولو لمرة، وإنما استغلوه أسوأ استغلال. ويكفي أن نعرف عن السلطان الغوري الذي انهزم أمام العثمانيين – وكان طبيعيًا أن ينهزم- أنه روَّعَ النفوس وملأ قلوب الناس رُعبًا وفزعًا وحسرة، وما كان هذا كله يحدث لولا أنه أسرف على الرعية في الظلم، وكان بخيلًا متهالكًا على جمع المال، فهو يأخذه بحقه أو من غير حقه، وإلى ذلك لم يكف أيدي أعوانه عن أموال الرعية، فعَمَّ الفساد وانتشر الخوف، وصار باطن الأرض خيرٌ من ظاهرها، أَفَبَعد هذا كله كان يمكن أن ينتصر؟! وفي إطار الأحداث التاريخية يتخيل العريان أن أم طومان باي لم يكن لها غير ولدٍ وحيد هو طومان وكانت تعطف عليه بقلبٍ يملؤه الحب والحسرة على الزوج المفقود والأب الغائب، إذ خرج زوجها في طلب ثأر أبيه المقتول منذ عشر سنين ولم يعد، فكان الصبي هو عزاؤها بعد يأسٍ من عودة زوجها، وهو أملها في الحياة، لذا ما فَتِئَت ترعاه في اليقظة وتحرسه في المنام. وذات ليلة تسمع أم طومان صوتًا يسلبها الطمأنينة، فتخرج من خيمتها لتنظر، ولكنها حين عادت لم تجد ولدها الوحيد الذي خطفه النَّخَّاسون أو "بائعو الرقيق" فتقسم أن تسعى في طلبه حتى تدركه أو يدركها الموت. ومن هنا تبدأ الرواية التي يضع فيها الكاتب أيدينا على خطين متوازيين: فأحدهما: طريق طومان الذي يذهب به الخاطف إلى بلاد الروم ثم إلى السلطنة المصرية حيث يُباع لأمير القلعة في مدينة حلب التي كانت تابعة لسلطان مصر، ثم يمضي مع سيده "الغوري" حتى يرقى الأخير عرش السلطنة، ويصبح طومان مستشاره وذراعه الأيمن في تدبير السلطنة، وحين ذهب "الغوري" لقتال "ابن عثمان" أو السلطان "سليم" يخلفه طومان على مصر، ثم يخلفه على عرشها بعد مقتله، وما يلبث الأتراك أن يفتحوا البلد فيقاوم حتى يتفرق عنه جنوده منهزمين، ويختفي عند أحد الأعراب الذي يغدر به ويسلمه إلى العثمانيين، وينتهي الأمر بالسلطان "طومان باي" وهو أسير يُطَافُ به في شوارع القاهرة، ثم يصبح قتيلًا مُعَلَّقًا على باب زويلة. والخط الثاني للرواية: هو خط الأم التي خرجت في طلب ابنها الذي لا تتيح لها الحروب أن تلقاه لتظفر برؤيته ومعانقته، حتى إذا انتهت إلى مصر وجدته سلطانًا مقتولًا تُعْرَض جثَّتُه للغادين والرائحين على باب زويلة، في مشهد يشكل فجيعة كبرى، وتراجيديا تضاهي في روعتها تراجيديات اليونان قديمًا وشكسبير حديثًا. وتمتلئ الرواية إلى ذلك بالنماذج الإنسانية، ما بين: رجال طامحين طامعين، وآخرين ضعفاء خانعين، وأناس يكيدون في سبيل الأموال، وآخرين يكيدون في سبيل المُلك، وطائفة يعيشون لملذاتهم، وأمامهم طائفة أخرى من الصوفية الذين يعيشون لعبادة الله عز وجل ويتخلصون من حُجًب النفس والدنيا. يقول الدكتور طه حسين: "والأشخاص في هذه القصة كثيرون، قد تفرقت بهم الطرق والتوت بهم المذاهب، واختلف بهم وعليهم الأهواء؛ وهم مع ذلك لا يصرفون القارئ عن قراءته ولا يردونه عن غايته؛ وإنما يدفعونه إلى هذه الغاية دفعًا، ليس منهم إلا من يثير في القارئ عاطفة حب أو بغض، أو رغبة في الاستطلاع، أو تذكرًا لشخصيات أخرى من شخصيات التاريخ، أو تفكرًا في بعض الأحداث والخطوب التي يشهدها هنا وهناك في حياة العصر الحديث.. قلت لك إنه كتابٌ رائع بأدق معاني الكلمة وأوسعها وأصدقها في وقتٍ واحد"..

مشاركة :