قضية فكرية أخرى شكلت أرضية صلبة لخلفية غاندي النظرية كما يرسمها الكاتب، وهي موقفه الواضح من الأديان. يستهلها بالموقف من الديانة المسيحية، التي تشكلت في مرحلة مبكرة من عمر غاندي، والتي ابدى من خلالها نوعا من النفور منها، حيث نجده يقول، صراحة «لقد داخلني ضرب من الكره لها (المقصود هنا المسيحية) ولم يكن ذلك من غير سبب، ففي تلك الأيام كان من دأب المبشرين المسيحيين أن يقفوا عند زاوية قرب المدرسة الثانوية وينثروا المواعظ، صابين الشتائم على الهندوس وآلهتهم». مثل هذا النفور لم يدفعه نحو الكفر أو الإلحاد، فغاندي كما يقول المؤلف، كان «يؤمن بوحدانية الإله أو الله وتعدد الأرباب في آن واحد، وهي حالة يصعب على القارئ المسلم ان يتفهمها دون أن يدرك الفرق بين معنى ومدلول لفظ الرب ولفظ الإله في بطون الفلسفة الهندوسية. ان مفهومي الإله والرب يتفاعلان معا في الوعي الديني لدى غاندي. كان غاندي يؤمن بالتعددية وقبول الآخر واحترامه، وكان ضد التبشير وضد محاولات نقل عقل البشر من دين الى آخر، فقد قال: لنفترض أن مسيحيا جاءني وقال لي إن قراءته للبقوت غيتا قد أسرته، وانه يريد أن يعتنق الهندوسية، فسأقول له: كلا، فإن ما يقدمه البغوات غيتا يقدمه أيضا الإنجيل، ولكنك لم تحاول البحث، حاول وكن مسيحيا مؤمنا». لكن المؤلف يستدرك هنا كي يميز بين رؤية غاندي للمسيحية ومن هم سواه، حيث يكشف غاندي بوضوح أنه «كان من المتعذر علي أن أؤمن بأني لا أستطيع دخول الجنة أو الفوز بالخلاص إلا اذا اصبحت مسيحيا.... كنت عاجزا عن الايمان بأن يسوع كان ابن الله المجسد الوحيد، وعن الاعتقاد بأن من آمن به هو وحده الذي سينعم بالحياة السرمدية.... ان عقلي لم يكن مستعدا للإيمان حرفيا، بأن يسوع كفر بموته وبدمه عن خطايا العالم. قد يكون في هذا بعض الحقيقة، من الناحية المجازية... وقبل غاندي بأن صلب العقيدة المسيحية يرتكز على التضحية، ولكنه في الوقت نفسه وجد ارتكاز الهندوسية على مبدأ التضحية كان اكثر عمقا وثباتا... وكانت الخلاصة بالنسبة اليه هي أن الاعتقاد بأن الدين المسيحي أعظم الأديان، أو انه الدين الوحيد الصحيح، هو اعتقاد غير صائب أو دقيق». وفيما يتعلق بمسألة اليهودية، بما في ذلك حق اليهود المزعوم في أرض فلسطين، نجد، في العديد من المواقع على الإنتنرنت، نصا لترجمة مفصلة لمقالة نشرها غاندي في صحيفة «حاريجان» الهندية في 26/11/1938 بعنوان «اليهود»، جاء فيها «إن فلسطين تنتمي للعرب مثلما تنتمي إنكلترا للإنكليز وفرنسا للفرنسيين.. وانه لمن الخطأ وغير الإنساني فرض اليهود على بلاد العرب. إن ما يحدث اليوم في فلسطين لا يمكن تبريره بأي أساس أخلاقي. إن الانتدابات ليس لها أي مبرر ما عدا الخاصة بالحرب الأخيرة. من المؤكد انه ستكون جريمة ضد الإنسانية لو تم إخضاع العرب حتى يمكن تسليم فلسطين لليهود، سواء بشكل جزئي أو كامل، كوطن قومي لهم. إن السبيل الأكثر نبلا كان لا بد أن يكون في الإصرار على معاملة عادلة لليهود في المكان الذي ولدوا وترعرعوا فيه». رغم ذلك لم يتوقف اليهود عن مساعيهم الخبيثة من أجل كسب تعاطف غاندي، ومن ورائه الهند، بطبيعة الحال مما يروجون له من حقهم الباطل في فلسطين، وهو أمر يشير له المؤلف حيث نجده يقول «وبتوجيه من القيادة الصهيونية وعن طريق موشيه شيرتوك Moshe Shertok، الذي أصبح اسمه فيما بعد موشيه شاريت Moshe Sharett، والذي كان في ذلك الوقت رئيس الوكالة اليهودية، والتي كانت الذراع السياسي للحركة الصهيونية، والذي أصبح ثاني رئيس وزراء لإسرائيل بعد ديفيد بن غوريون. قام هيرمان بزيارة غاندي في دلهي، في شهر مايو/ أيار 1937م، لطلب دعمه ومساندته للحركة الصهيونية، والحصول منه على تصريح يدعم مشروع الصهاينة لإقامة دولة خاصة لليهود على أرض فلسطين، لهذا بقي هيرمان في الهند مدة طويلة، الى جانب غاندي لا يفارقه وسكن معه في الأشرم». الملفت للنظر هنا ما نوه له المؤلف بشأن ردة فعل غاندي من تلك المساعي الخبيثة، حيث نجده يؤكد على موقف غاندي الصارم تجاهها قائلا «وعلى الرغم من أن غاندي كان يحس بأنه مدين لهيرمات كالينباخ، ويقدر كل التقدير ما قدمه من دعم ومساندة له أثناء إقامته وكفاحه في جنوب أفريقيا، وعلى الرغم كذلك مما بذله الأخير من جهود مستميته، فإنه لم يفلح في زحزحة غاندي عن مواقفه المبدئية الثابتة أو استمالته أو إقناعه بوجهة النظر الصهيونية، رفض فكرة الصهيونية، وخطط الصهاينة للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية بحجة إيجاد وطن قومي لليهود». ولا نريد هنا اللجوء إلى بعض الإسقاطات التي قد تبدو مفتعلة، لكن تجدر الإشارة إلى أنه مؤخرا نشرت مقالة تتحث عن ضغوط مارسها اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة في العام 2008،«أدت إلى استقالة أرون غاندي، حفيد المهاتما غاندي، من منصبه في جامعة Rochester، وذلك في أعقاب تصريحات انتقد فيها إسرائيل وعنف اليهود، قائلا فيها ما مفاده إن اليهود الآن هم أهم لاعب في عالم العنف». أما بالنسبة لموقف غاندي من الإسلام، تكفي الإشارة إلى قوله، كما جاء في الكتاب «لقد اقتنعت أكثر من أي وقت مضى بحقيقة أن السيف لم يكن هو من فاز بالمكانة للإسلام في تلك الأيام، بل كانت البساطة والاحترام الدقيق للعهود». ثم يضيف في موقع آخر «بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي آسفا لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة». مواقف غاندي النظرية غنية، وقد عالجتها الكثير من الأقلام العربية، بمن فيها البحرينية، وليس ما ورد في كتاب الشغلة سوى إضافة غنية أخرى بحاجة إلى المزيد من الإثراء، بعد التمحيص والتمعن. * مراجعة ملخصة لكتاب «غاندي وقضايا العرب والمسلمين». تأليف الكاتب البحريني عبدالنبي الشعلة.
مشاركة :