تحدثت في الجزء الأول من هذا المقال عن المراجعات الفكرية، بصفتها تطورا محسوبا على التاريخ الاجتماعي، الذي يتحرك على الدوام، من خلال آليات متداخلة معقدة بطيئة، ثم تعرضت إلى نماذج من الفقهاء والمتكلمين الذين لم يطوروا أفكارهم فحسب، بل إن بعضهم تحول من مذهبه الذي كان يتعبد الله وفقه، إلى مذهب آخر. ولما كان الشيخ سلمان العودة، بصفته أحد أبرز ممثلي خطاب الصحوة، محور المقال، فسأتحدث اليوم عن نماذج من الرؤى الجديدة للشيخ، والتي ينظر إليها على أنها تطوير لأفكار السابقة لمبادئ ورؤى عقدية. ولضيق المساحة، فأقتصر على مسألة واحدة من ضمن مسائل عديدة شملها التطور الفكري للشيخ، ألا وهي مبدأ (الولاء والبراء). لا شك في أن لـ(الولاء والبراء) منزلة كبيرة جداً في الرؤية السلفية، وخاصة في فكر الصحوة، الذي رفع كثيراً من شأن هذا المبدأ، وجعله ركناً ركيناً من إيديولوجيته.. فلقد فسر فكر الصحوة الولاء والبراء بأنه يعني الولاء للمسلمين، والبراءة من غير المسلمين بالمطلق.. لا شك في أن لـ(الولاء والبراء) منزلة كبيرة جدا في الرؤية السلفية، وخاصة في فكر الصحوة، الذي رفع كثيرا من شأن هذا المبدأ، وجعله ركنا ركينا من إيديولوجيته. فلقد فسر فكر الصحوة الولاء والبراء بأنه يعني الولاء للمسلمين، والبراءة من غير المسلمين بالمطلق. بمعنى أنه يجب على المسلم أن يوالي المسلمين مطلقا، ربما وفق تفسير مذهبي معين، ويتبرأ من غير المسلمين مطلقا، بغض النظر عن نوع علاقتهم بالمسلمين، محاربين كانوا أم مسالمين. ولقد ذهب فكر الصحوة، كما يقرر الدكتور محمد بو هلال في كتابه (خطاب الصحوة السعودية)، إلى حد اعتبار عقيدة الولاء والبراء من شروط التوحيد، واستشهد برأي لأحد شيوخ الصحوة يقول فيه: "الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله....". وكان الخروج على هذا المبدأ، على الأقل زمن الصحوة، مدعاة للتشكيك في العقيدة، هذا إن لم يتسبب في الحكم على صاحبه بالخروج من الإسلام. لعل أول تعديل حقيقي على الموقف السلفي/ الصحوي على عقيدة (الولاء والبراء) جاء على وقع إصدار عدد من المثقفين السعوديين، بلغ عددهم مائة وخمسين، معظهم من رجال الدين، ومن مشايخ الصحوة تحديدا، وكان من بينهم الشيخ سلمان العودة، للبيان الشهير (على أي أساس نتعايش)، والذي جاء كرد على بيان لمعهد القيم الاميركي في نيويورك، والذي وقع عليه ستون مثقفا أميركيا، بعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول، من عام 2001م، والذي كان بعنوان (على أي أساس نقاتل). مع ذلك، يمكن القول إن الموقف الجديد للشيخ سلمان من مسألة، أو عقيدة (الولاء والبراء)، كان موقفا نوعيا بحق وحقيقة. لقد انصبت مراجعات الشيخ على مستوى (الولاء)، على التفرقة بين الولاء الفطري، أو لنقل الولاء المدني من جهة، والولاء الديني من جهة أخرى وهكذا، فـ"حب القريب، وحب الصديق، وحب الزوجة، وحب الوطن، وحب القبيلة، ولاء لا يتناقض مع البراءة من غير المسلمين"؛ بل إن "الولاء النسبي كحب كافر لشخصه، أو لقرابته، أو لحسن معاملته، أو لصداقته لا بأس به، بصفته نوعا من الولاء الفطري الذي أباحه الإسلام، ولم يقف ضده أو يحرمه؛ فالإسلام أمر بصحبة الأبوين المشركين بالمعروف، وأباح الزواج من الكتابيات، مع أن الله قال عن العلاقة الزوجية (وجعل بينكم مودة ورحمة)". أما البراء، فلقد انصبت مراجعات الشيخ فيه إلى تضييق مجاله بشكل كبير جدا؛ إذ قصر الشيخ البراءة، بالنسبة لغير المسلمين، على المحاربين منهم فقط؛ فلقد أصبح معنى البراءة عند الشيخ" إخلاص الحب العقائدي للدين، دون أن يشترط في ذلك خلو القلب من الحب الفطري، والعلاقات الإنسانية التي يتخللها نوع من الحب والمودة مع غير المسلمين، لأن الأصل في العلاقات مع غير المحاربين، حسن التعامل وتبادل السلم". ولتأكيد هذا الموقف، يعود الشيخ فيؤكد على أن"كل الآيات التي جاءت تحرم موالاة غير غير المؤمنين، فالمقصود بها المحاربون"، استدلالا بقوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين.. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون". هذا، ولم يكن الشيخ سلمان، كما قال الدكتور (محمد بو هلال) وحيدا في تطوير الموقف الصحوي من عقيدة (الولاء والبراء)، فهذا الدكتور أحمد الدغشي أثار، كما يقول صاحب الكتاب، حفيظة شيوخ الصحوة ببحثه حول (صورة الآخر في فلسفة التربية الإسلامية)، إذ اعتبر "أن الولاء والبراء منوطان بحالتي السلم والحرب، إذ الأصل التعايش في حال السلم، والاستثناء هو التناحر في حال الحرب". ولقد جلب هذا الموقف الجديد للشيخ سلمان العودة بعض الانتقادات العنيفة من بعض شيوخ الصحوة، كذلك الانتقاد الذي يرى صاحبه أن مراجعات الشيخ في الولاء والبراء بلغت حد "الاضطراب في تقرير عقيدة البراء، واختزالها في تأويلات تردها نصوص الوحي، وقواطع الشرع"؛ ولولا ما للشيخ من سابقة في الصحوة، فلربما لم يتردد بعضهم في زندقته، وربما الحكم بردته! ولعنا نستعرض في مناسبات قادمة بعض الرؤى التي طور الشيخ أفكاره بشأنها.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
مشاركة :