لا أعتقد أن ثمة جماعة تمارس التدليس والكذب والتزوير مثل جماعة الإخوان المسلمين وكذلك جماعة السروريين. من يقرأ الهدف النهائي الذي جعلته هذه الجماعات لنفسها سيجد أنها (دولة الخلافة) ويدعون أنها أصل من أصول الإسلام الذي لا تكتمل الدولة في الإسلام إلا به، بينما أن قليلاً من القراءة والبحث والتمحيص سيجد الباحث بوضوح أن الدولة في العصور الإسلامية مثلها مثل كل الدول التي عرفها التاريخ، فيها من الصراعات والتطاحن وأحيانا الحروب الأهلية، ما يجعل كل من زعم أن (الحكم) أصل من أصول الشريعة قد افترى على الله الكذب، فقضية الحكم قضية اجتهادية ليس لها قداسة، وليست - كما يقول الإخوان - (فريضة إسلامية)، فادعاءهم هذا ضرب من ضروب الكذب والتدليس والافتراء. الدولة التي قد نقبل أنها دولة مقدسة هي حصرا دولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبوفاته، وانقطاع الوحي من السماء، لم يعد هناك دولة مقدسة وإنما دولة اجتهادات إنسانية، حتى دول الخلفاء الراشدين أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، لم تكن كذلك، ولم يزعم واحد من هؤلاء الخلفاء الأربع أنه يتلقى وحيا من السماء، أو أنه لا يُخطئ، فعمر بن الخطاب، وفي مرات مختلفة، كان يُقر بخطئه من على المنبر، كما أن هناك من الخلافات في وجهات النظر والنزاعات التي حدثت بين الصحابة وسالت بسببها الدماء ما ينأى بها من أن تكون دولة مقدسة، أو أنها فريضة إسلامية كما (يُدلس) الإخوان المسلمون. ومن يقرأ تاريخ الإسلام يجد أن الصراع حول السياسة وتولي السلطة خلال ما كانت تسمى حينها (خلافة إسلامية) ما يلغي مزاعم الحركات المسيسة المتأسلمة أن دولة الخلافة فرض من فروض الإسلام، يكفي أن تقرأ الحوار الأول الذي دار بين المسلمين بعيد وفاة الرسول في سقيفة بني ساعدة، لتقطع بما أقول، فخلال هذه الحوارات لم يزعم أي من المتحاورين أن ثمة دولة خلافة أوصى بها الرسول، بل كان الحوار حول ما تقتضيه المصلحة، ولم يقحم أي من الطرفين قول قرآني أو حديث للرسول حجة في هذا الخلاف، الأمر الذي يلغي أن (الخلافة) فريضة إسلامية. وأنا من أشد المعجبين بكتاب (الإسلام وأصول الحكم) للعالم الأزهري «علي عبدالرازق»، الذي أثبت بالحجة والدليل والبرهان أن السياسة وشؤونها ليست أصلا من أصول الإسلام، وأن الإسلام دين وعقيدة وروحانيات، وقضايا السياسة والحكم تدور مع مصالح المسلمين حيث دارت، ولم يرد في صفتها وانتقالها بين الخليفة السلف إلى الخليفة الخلف، وكيفيتها تعاليم معينة تحددها كما هي أمور العقيدة والعبادات، ولو كان الحكم من أصول الدين لما أغفلها، وهو جل وعلا القائل: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (38) سورة الأنعام. وأنا أعتبر هذا البحث من أهم الكتب التي صدرت في الفقهيات خلال القرن العشرين، وقد شن عليه مثقفو وفقهاء السلطة حينها حملات تجهيلية شعواء، لأنه أصدره بعد سقوط الخلافة العثمانية، وكان الملك فؤاد قد طرح نفسه ليكون الخليفة البديل، فجاء هذا لكتاب ليفسد طموح الملك المصري آنذاك، إضافة إلى أن جماعة الإخوان هم أيضا شنوا على المؤلف والكتاب حملة شعواء، اتهموه فيها بأنه لم يكتبه، وإنما كتبه له آخرون من التغريبيين كطه حسين أو مستشرقين، فجماعة الإخوان - كما هو معروف - كانت تحور وتدور وما تزال حتى اليوم في بحث دؤوب عن السلطة واستغلال السياسة باسم الدين. وعلى أية حال، وبعد أن رأينا ما فعله المتأسلمون المسيسون من جماعة الإخوان وغيرهم من أهوال تشيب لها الولدان أثناء الربيع العربي، فإنني أدعوا إلى العودة لهذا الكتاب، وتحقيقه، ومحاولة إحيائه من جديد، ليكون منطلقا لتجديد الخطاب الديني. إلى اللقاء..
مشاركة :