«الوصايا العشر».. حياتنا رحلة تعلم

  • 1/14/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يقدم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في أحد فصول «قصتي»، 10 وصايا في الإدارة الحكومية للمسؤولين في عالمنا العربي.ويقول سموه: «قبل عدة أشهر، تحدثت في عدة تغريدات عبر منصة «تويتر»، عن جزء من أزمة العالم العربي، وأن أزمتنا أزمة إدارة وليست أزمة سياسة، وأننا بحاجة لإداريين أكثر من السياسيين يستطيعون إصلاح جزء من الخلل التنموي في المنطقة».وصلتني هذه الرسالة عبر موقع «تويتر»: صاحب السمو، لو اخترت أن تكتب 10 وصايا في الإدارة الحكومية لمسؤول في عالمنا العربي.. ماهي هذه الوصايا العشر؟ أحببت السؤال، وأعتقد أنني أستطيع أن أقول شيئاً في هذا المجال.أولاً: وقبل كل شيء، أقول إن حياتنا هي رحلة تعلّم، رحلة لا تنتهي، وكلما تعلّمنا أكثر عرفنا مقدار ما نجهل، وهو أكبر مما نتصور. لذلك، التوقف عن التعلّم هو توقف عن التقدم في الحياة.يمكن أن أختصر الوصايا العشر لأي مسؤول في مجال الإدارة الحكومية حسب خبرتي المتواضعة كالتالي:* الوصية الأولى: اخدم الناس! الغاية من الإدارة الحكومية هي خدمة الناس، الغاية من الوظيفة الحكومية هي خدمة المجتمع، الغاية من الإجراءات والأنظمة والقوانين هي خدمة البشر: لا تنس ذلك. لا تمجد الإجراءات، ولا تقدّس القوانين، ولا تعتقد أن الأنظمة أهم من البشر، هي لخدمتهم وراحتهم وتسهيل حياتهم، هي قابلة للتغيير في أي وقت من أجلهم. الكثيرون يفقدون البوصلة، ويعتقدون أن دورهم الحفاظ على الأنظمة المعمول بها، وتطبيق نصوص القوانين التي تم تشريعها، وإنفاذ الإجراءات التي تم اعتمادها، وهذا الاعتقاد أساس الكثير من مشكلاتنا الإدارية. لو أن القانونيين، والمشرّعين، والوزراء، والمديرين، ومن يستقبل المتعاملين، ومن يصمم الخدمات، ومن يقدمها، ومن يضع الموازنات، ومن ينفذ المشاريع، لو أن هؤلاء حافظوا على البوصلة والتزموا بمبدأ «خدمة الناس»، لتغيَّـرت نظرتهم وأولوياتهم وقراراتهم وخططهم، ولحدثت ثورة إدارية في عالمنا العربي.* الوصية الثانية: لا تعبد الكرسي! الوظيفة والمنصب والمسؤولية كلها مؤقتة، ستذهب عنها سريعاً، أو ستذهب عنك. رصيدك الحقيقي هو عملك وإنجازك، وكلما أنجزت أكثر ارتفع منصبك، وعلا اسمك، وأحبك الناس، وجزاك الله خيراً في الدنيا والآخرة. إذا أحببت الكرسي، لن تملك الشجاعة لاتخاذ قرارات ترفعك وتوصلك للكرسي الذي يليه. إذا أحببت الكرسي قدَّمته على قيمك ومبادئك والغاية التي جئت من أجلها، وهي خدمة الناس. اجعله آخر همك، وستملك عندها طاقة كبيرة وأفقاً واسعاً لتغيير واقع مؤسستك ومجتمعك ووطنك، انظر لمصلحة وطنك البعيدة وليس لِرِجل كرسيك عند قدمك.* الوصية الثالثة: ضع خطتك! عندما لا تخطط فأنت تخطط لفشلك. الكثير من المسؤولين يعيشون وظيفتهم يوماً بيوم، لا ينظرون لأبعد من أسبوع أو شهر، وهذا أحد أكبر تحدياتنا الإدارية. دور القائد الأساسي هو معرفة الاتجاه، وإرشاد فريقه نحوه، وتحفيزهم باستمرار للوصول إليه. إذا أخفقت في وضع خطة، فأنت تسير بغير هدى، ولا يهم أين تصل، لأنك لن تصل إلى شيء ذي قيمة.* الوصية الرابعة: راقب نفسك! راقب الأداء في مؤسستك، واجعل لك رقيباً داخلياً في المؤسسة، وخارجياً محايداً. لا بد من مؤشرات تضمن من خلالها بأنك تمشي في الاتجاه الصحيح لتحقيق الخطة. لا تغش نفسك ووطنك بوضع مؤشرات ضعيفة ورقابة ضعيفة. لا يمكن إنجاز أي مشروع دون مؤشرات حقيقية وصريحة تلزم بها نفسك وفريق عملك.* الوصية الخامسة: اصنع فريق عملك! لا تحلّق وحيداً، لا تغرّد وحيداً، لا تصفق وحيداً. اصنع فريقاً يحملون أهدافك لآفاق جديدة، تنازل عن صلاحياتك لهم، أرشدهم وعلمهم ومكّنهم، ارفع السقف أمامهم، أخرج المارد الذي بداخلهم كافئهم وأبرز إنجازاتهم. استرخ واستمتع بالنتيجة، لأن الفريق العظيم سيحملك إلى أماكن عظيمة، والفريق الضعيف ستحمله فوق ظهرك حتى يكسره.* الوصية السادسة: ابتكر أو انسحب! الحكومات التي لا تبتكر تشيخ وتهرم وتخرج من السباق ومن السياق. الأفكار تجدد الدماء، وتسبق بها المنافسين، وتقلل بها التكاليف، وتعيد من خلالها اكتشاف نفسك. الاقتصاد الجديد قائم على الأفكار، والعالم الجديد يبحث عن مواهب تحمل أفكاراً جديدة. لا تتوقف عن البحث عن أفكار عظيمة عند فريقك، عند مراجعيك، عند عموم الناس. لا يوجد شيء أقوى من فكرة عظيمة.* الوصية السابعة: تواصل وتفاءل! تواصل مع جمهورك باستمرار، مع مجتمعك، مع الإعلام من حولك. ابنِ سمعتك وصورتك، وأخبر العالم عن طموحاتك وقدراتك. بعض الحكومات تعتقد بأن التواصل الإعلامي وظيفة تكميلية، وأحياناً مزعجة. أقول لهم بأنها أساسية ورئيسية. من خلال الإعلام تبني صورتك، وترسخ الشفافية في حكومتك، ويعرف الناس أين تمضي بمؤسستك. من خلال الإعلام تحصل على مساندة الجمهور لك، لأنهم يعرفون أين تذهب، ويعذرونك إن أخطأت لأنهم عرفوك وألفوك في خدمتهم. أعلن عن أهدافك في الإعلام لأنهم سيحاسبونك وهذا في صالحك، لأنك ستبذل الغالي والنفيس فـي تحقيق ما أعلنت عنه والتزمت به أمام الناس. تواصل دائماً ولا تختبئ، فالإعلام صديق وليس عدواً، صديق للمخلص المنجز وعدو للمتكاسل والفاسد.* الوصية الثامنة: لا تكن من غير منافس! التنافسية مبدأ مهم في سلوكنا نحن البشر. نافس نفسك أو غيرك. الشركات تنجح عندما تتنافس في بيئة مفتوحة. نافس غيرك من الدوائر والمؤسسات في الدول المختلفة، نافس للحصول على مراكز أولى محلياً أو عالمياً، اجعل بيئة العمل بيئة تنافسية أيضاً، نافس ماضيك لتكون أفضل منه، نافس أهدافك لتحقق أعلى منها، نافس دولاً لتكون أعظم منها. التنافسية أسلوب حياة في الحكومات، من غيرها تتراجع الهمم، وتنطفئ الحماسة وتفتر العزائم.* الوصية التاسعة: اصنع قادة! اصنع قادة تصنع مستقبلاً. القائد الحقيقي هو من يصنع قادة، والمؤسسة الحقيقية هي التي تخرج قادة، وضمان استمرارية التفوق مرهون بجهود المؤسسة في صنع قيادات: قيادات تفتح آفاقاً أكثر، وتحمل طاقات أكبر، وتنقل المؤسسات لقمم جديدة. صنع القيادات سرُّ لا يفهمه إلاّ رجال تغلبوا على تضخم الأنا والذات، وفهموا أن أعظم إنجاز يصنعونه هو بناء البشر وليس الحجر.* الوصية العاشرة: انطلق لبناء الحياة! نحن محظوظون لأننا نعمل في الحكومات. وظيفتنا ليست وظيفة عادية، وظيفتنا أجمل ما في حياتنا، بل هي الحياة. وظيفتنا عظيمة، نغير من خلالها حياة الملايين نحو الأفضل.لا تستهن بدورك أو عملك أو جهدك، فأنت تعمل في مجال صنع الحياة، وتصميم المستقبل، وبناء الأوطان».«حوار مع إرهابي».. درس مهم في الحياةيروي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في فصل يحمل عنوان «حوار مع إرهابي» قصة أول حوار لسموه مع إرهابي، وذلك في يوليو 1973، وتالياً نص القصة:أول حوار أجريته مع إرهابي كان في يوليو 1973، اسمه أسامو ماروكا، كان زعيماً معروفاً في منظمة مسلحة أطلقت على نفسها اسم «الجيش الأحمر الياباني»، التي تسعى من بين أهدافها إلى الإطاحة بالملكية والحكومة اليابانية والبدء بثورة عالمية. أقامت هذه المنظمة علاقات مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، دعماً لقضية الشعب الفلسطيني، ومن أجل دعم قضية الشعب الفلسطيني العادلة قام ماروكا مع عناصر من الجبهة باختطاف طائرة وعليها 118 راكباً مهددين بتفجير الطائرة وقتل جميع من فيها. كيف تستطيع التفاهم مع مجموعة هذا منطقها؟، يريدون قتل أبرياء لحل قضية أبرياء آخرين!، يريدون تسجيل بطولة في مساعدة المظلومين من خلال ظلم مجموعة أخرى وقتلهم!، يستغلون تعاطف المجتمعات مع قضية عادلة، فيجندون الأتباع لإرهاب مجتمعات أخرى لا ذنب لها، ولا ناقة لها ولا جمل، كما يقولون.أسوأ تشويه لأي قضية عادلة، هي أن يتبناها إرهابيون، إذا أراد العدو تشويه أي قضية، سخر لها إرهابيين، وسهّل طريقهم لإرهاب المجتمعات الآمنة. عانت منطقتنا عبر عقود طويلة، من هذا المنطق ومن هذه العقيدة الظالمة. دول فقدت الآلاف بل مئات الآلاف من الناس وفق هذا المنطق!.مجتمعات فقدت عشرات السنين من النمو والتطور بسبب فكر إرهابي، يبدأ بقضية عادلة وينتهي بذبح أبرياء دون أي مبرر.كنت في قاعدة عسكرية عندما رنّ هاتفي، ليتم إبلاغي باختطاف طائرة الخطوط الجوية اليابانية، طراز بوينج 747، وطلبها الإذن بالهبوط في مطار دبي، أبلغت الشيخ زايد والشيخ راشد بتفاصيل الوضع، وتوجّهت مباشرة إلى المطار لإجراء الترتيبات اللازمة قبل وصول الطائرة.أعطيت أوامري بإخلاء مهبط الطائرات وتوجيه كافة الطائرات القادمة لمطارات أخرى قريبة، كنتُ في موقعي مع فريقي، وانتظرنا الطائرة لتدخل مجالنا الجوي وتتواصل مع برج المراقبة. وسرعان ما امتلأت الغرفة بأصوات الطيارين فأعطيت إذناً بهبوط الطائرة المختطفة على أراضي دولة الإمارات العربية المتحدة في حادثة هي الأولى من نوعها.هبطت الطائرة وكان إجمالي من على الطائرة بالإضافة لمختطفي الطاقم 145 شخصاً، بينهم أربعة فلسطينيين والياباني الذين كانوا قد اختطفوا الطائرة رحلة رقم 404 والمتجهة إلى طوكيو من أمستردام بهولندا، كانت الطائرة في حالة سيئة، حيث انفجرت إحدى القنابل بأحد المختطفين وهي امرأة لتلقى حتفها على الفور، نجت الطائرة بأعجوبة من ذلك الانفجار، وهبطت بسلام على أرض السلام دولة الإمارات.بعد هبوطها جاء صوت قائد فريق الاختطاف أوسامو ماروكا عبر الميكروفون، مطالباً التحدث فقط مع شخص مسؤول في الدولة، رفعت السماعة وقلت له: تحدث! أنا معك، قال: ومن أنت؟ قلت له: محمد بن راشد آل مكتوم.قال: إذن أنت عربي، لابد أن ندعم القضية الفلسطينية. إنها قضيتكم. كانوا يريدون مغادرة الطائرة والاحتماء في دولة الإمارات. كنت أستطيع تمييز توتره وتشنجه عبر موجات الراديو، قلت له: دعني في البداية أسألك عن الطعام والشراب للركاب، هل تحتاجون طعاماً أم لديكم ما يكفيكم؟ردّ عليّ بكل توتر: لا تغير الموضوع، لدينا متفجرات، ولدينا أسلحة وسنقتل جميع الركاب. بدأت بتهدئته والحديث معه بكل هدوء حول مطالبه.قلت له إن قضية الشعب الفلسطيني قضيتنا نحن أيضاً، ولكن لا يمكنني منحكم ممراً آمناً، يمكنني مساعدتكم في أي أمر آخر.قال لي: نعم لدينا مطلب آخر، وكان مطلبه إطلاق أحد رفاقهم المحتجزين في «إسرائيل».طلبت منه أن يكون واقعياً!، قلت له: هل تعتقد أننا نتحدث من الأساس مع «إسرائيل»؟ ليس لدينا أي علاقات معهم.طلبت منه الحديث مع أحد الخاطفين الفلسطينيين لعلي أستطيع إقناعه، حولني إلى أحد القادة الفلسطينيين، حاولت الحوار معه لكنه كان أكثر توتراً وصراخاً من صاحبه الياباني.رجعت للحديث مع الخاطف الياباني ماروكا، وتابعت الحديث معه بالنبرة نفسها، وأوضحت له التناقض ما بين الاعتراض على ما يحصل للشعب الفلسطيني من مآسٍ، وبين ارتكاب فظائع شبيهة بحق أشخاص آخرين لإثبات وجهة النظر هذه، بقينا على الوتيرة ذاتها لفترة، ومع أنني تمكنت من اكتساب ثقته، إلاّ أنني عرفت وجميع من في البرج، أنه يخطط لخطوته التالية. لقد فهمنا بعضنا بعضاً، وكنت واضحاً في رفضي الاستجابة لطلباته.استمر الحوار لساعات طويلة، واستمر الوضع على حاله لثلاثة أيام، وكان الشيخ زايد والشيخ راشد على تواصل دائم معي، لأنهما عرفا أنني بحاجة لأن أكون وحدي في التعامل مع الوضع وأوصلنا الطعام إلى الطائرة مرتين، ورأينا أن الهدوء يعم الطائرة ولم نجد دليلاً على أن شخصاً قد تأذى، كما بدا الخاطفون هادئين أيضاً.في صباح اليوم التالي ومع بزوغ الفجر، جاءني صوت ماروكا على الراديو: صباح الخير.. أتمنى أن تكون حصلت على نوم مريح، كان في صوته شيء من السخرية، يبدو أنه عرف أنني لم أنم. قلت له: لقد تعب الركاب من كل هذا دون أن يكون لهم أي ذنب، أطلق سراح الركاب! ليست هذه الطريقة المناسبة للتعبير عن دعمنا للقضية الفلسطينية، ردّ عليّ بصوت متوتر: سأفجر الطائرة هل تفهمني؟قلت له: أنت أخونا في النضال من أجل القضية الفلسطينية، وأنا أفهم تماماً دوافعك، وأتفهم عدالة القضية التي تحارب من أجلها، ونقدر ذلك، ولكن لابد أن تكون حكيماً، وتكون صبوراً، ونتحلى جميعاً بالإنسانية تجاه هؤلاء الأبرياء أطلق سراحهم! كان يهدأ أحياناً، ثم يعود للصراخ ويقول: لدي الكثير من المتفجرات أستطيع تفجير هذه الطائرة الآن.في اليوم الثالث أخبرت ماروكا الذي بدأ يشعر بالتعب بأننا وافقنا على تزويد الطائرة بالوقود لينطلق بها حيث شاء، لكننا لن نوافق على نزول الخاطفين للاحتماء في الدولة، وفعلاً، بعد تزويد الطائرة انطلق بها إلى ليبيا، وهناك تم إطلاق جميع الركاب مع طاقم الطائرة ثم قام الخاطفون بتفجير الطائرة في مطار بنغازي، لم يكن ماروكا كاذباً بشأن حجم المتفجرات التي كانت معه على متن الطائرة، وأحمد الله أن مفاوضاتنا فرضت عليه شيئاً من التعقل، بعدم تفجيرها بالركاب.شكلت تلك الحادثة درساً مهماً في الحياة، عدو عاقل خير من صديق جاهل وأحمق، ولعل كثرة الأصدقاء الحمقى أضرت بالكثير من قضايانا العادلة. «إرهاب عابر للحدود» يرسم قصة الأمن يروي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في أحد فصول «قصتي» الذي يحمل عنوان «إرهاب عابر للحدود» الدوافع التي حفزت سموه لنشر الأمن والأمان في دولة الإمارات، وتالياً نص القصة:أسوأ ما قد يحدث لأي دولة أن يتم جرّها لأزمات وصراعات ليس لها فيها ناقة ولا جمل. أسوأ ما قد يحدث لرجل أمن مثلي أن يأتيه إرهاب من خارج بلده عابر للحدود لتتعامل معه وتتجنب إزهاق أرواح الابرياء.في عام 1977 بدا التوتر حليفي على الدوام، حتى أنني كثيرا ما شعرت بالحرقة وبطعم المرارة بسبب وصول حمض المعدة إلى بلعومي نتيجة لارتفاع نسبة الأدرينالين في عروقي.في أحد الاجتماعات التي ترأستها في وزارة الدفاع في الساعة السابعة صباحاً، تابعت طائرة «بوينج 747» تابعة لشركة لوفتهانزا خطفت وعلى متنها 91 شخصاً بمن فيهم أفراد طاقمها، كانت الرحلة رقم 181 المتجهة من مطار بالمادي مايوركا في إسبانيا إلى مطار فرانكفورت بألمانيا عندما اختطفتها مجموعة من أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين للمطالبة بإطلاق سراح رفاق لهم مسجونين في ألمانيا الغربية.لسبب ما ركزت انتباهي وحرصت على متابعة الأنباء الواردة عن الطائرة أولاً بأول، وتولد لديّ إحساس لا يخطئ بأن أمراً جللاً على وشك الحدوث. ففي الصباح قطعت عملي أكثر من مرة للاطلاع على تطورات الأحداث ومستجداتها، وأصابني القلق كلما رن جرس الهاتف ثم عرفت أن الخاطفين اتجهوا إلى لارنكا ومنها إلى البحرين، وعندها أدركت بلا أدنى شك أن علينا الاستعداد لمساعدة إخواننا في البحرين في حال احتاجوا للدعم.اعتقدت أن هذا السبب هو ما دفعني لمتابعة الأنباء المتعلقة بالطائرة المخطوفة ولكن اتضح لي لاحقاً مبعث الإحساس الذي سيطر عليّ: فبعد تزود الطائرة بالوقود في البحرين ها هي ستتجه إلى دبي. «86 مسافراً وطاقم الطائرة الخمسة، 91 روحاً. 91..»، هذا ما كان يدور في رأسي حينها.أعطيت الأوامر لرجالي فور وصولي إلى الباب بخطوتين كبيرتين: أعلموا الرئيس! أعلموا الشيخ راشد! وظلت عبارة 91 مسافراً وطاقم الطائرة 91.. تدور في رأسي، ثم اتجهت بسرعة البرق إلى المطار. أمضيت ستين دقيقة في إعداد رجالي وتهيئتهم للتصرف مع الموقف وهو الموقف الذي تستغرقه الرحلة من البحرين إلى دبي «60..91..». ظل هذان الرقمان يترددان في ذهني ولا يغادرانه حتى وصلت إلى برج المراقبة.حال دخولي برج المراقبة، أمسكت سماعة الهاتف للتحدث مع الشيخ زايد ووالدي. فقد احتجت إلى المزيد من الوقت. أحتاج إلى وقت كاف، اكثر من 60 دقيقة، لتوزيع القناصين والسيارات المسلحة بعيداً عن مرأى الخاطفين، وتشكيل الفرق الطبية. بعد اطلاعه على تفاصيل الوضع، رد الشيخ زايد على اتصالي خلال ثوان، وتخطينا المجاملات والتحية ثم قال لي: محمد، أخبرني ماذا تحتاج، فطلبت من القائد الأعلى للقوات المسلحة إعطائي الإذن بالتواصل مع الطائرة، انطلاقاً من فكرة أن الإمارات لا تسمح بهبوط أي طائرة مخطوفة على أراضيها. حصلت على موافقته وهو متيقن أنني سأبقى متماسكاً حتى اللحظة الأخيرة بعد أن أعددت رجالي للتعامل مع الموقف.عندما انتهينا من تجهيز كل شيء خاطبت الطائرة من برج المراقبة قائلاً: رحلة لوفتهانزا، نصرّح لك بالهبوط على الأرض، يمكنك الهبوط. استمعت إلى صوت الطيار الذي رد عليّ، وحاولت تخيّل شكله أثناء مراقبتنا «البوينج 737»، وهي تُنزل عجلاتها التي احتكت بالأرض، وهنا عرفنا أننا في موقف عصيب.عندما هبطت الطائرة، استولى أحد الخاطفين على الميكروفون وملأ البرج بصدى صوته. وخلال ذلك، كنت هادئاً جداً لأستطيع سماعه والحكم عليه، وبدت أرواح الركاب أقرب للانقاذ. استمعت إليه وهو يعرّف بنفسه ويقدم طلباته، ثم وافقت على إيصال الطعام والماء للطائرة.حرصت على استمرار الحديث مع الخاطف، ولم أحتج إلى فريق التحليل النفسي لتقييم عقلية الرجل الذي أمامي، فقد كان مضطرباً وغير متوازن. واتضح لي فوراً أن حياة الركاب مرهونة بالحالة العقلية لشخص قد ينهار في أي لحظة. كان يتحدث بسرعة كبيرة وغير مفهومة حول أعدائه الامبرياليين الذين يحكمون العالم. وكان من مطالب الخاطفين إطلاق سراح رفاق لهم أعضاء في جماعة الجيش الأحمر، المعروفة باسم مجموعة «بادر-ماينهوف»، وهي جماعة يسارية مسلحة في ألمانيا الغربية، يقضون عقوبات في السجون الألمانية.تحدثت مع رجل لا يتبع المنطق أبداً لمدة ثمانٍ وأربعين ساعة. دار الحديث عن عائلته وعن موضوعات أخرى كثيرة لا رابط بينها، طلبت منه الاستسلام مراراً، لكنه رفض. لم أتجاوب مع كل طلباته، ولكنني كنت أهدئه على الفور عندما يهدد بقتل أي من الركاب. قطعت الاتصال لفترة وجيزة للتحدث مع المسؤولين في الحكومة الألمانية، وأوصلنا الطعام والمستلزمات للطائرة. كان علي الاقتراب من الطائرة، فلم أكن قادراً على مساعدة الركاب أو الطاقم وأنا جالس بعيداً عنهم. فكرت بعائلاتهم، وتخيلت لو أن فرداً من عائلتي كان مخطوفاً في هذه الطائرة. عرفت أن أي خطوة خاطئة ستؤدي إلى إزهاق روح، لذا فإن الطريقة المثلى كانت الانتظار والتفاوض، وإقناع الخاطفين بأنهم لن يحصلوا على ما يريدون، وأن عليهم الاستسلام.كنت متأكداً أنهم سيطلبون المزيد من الوقود عندما يعرفون أن الإمارات لن تحمي الإرهابيين مقابل حياة المسافرين، وبعد الساعات الثماني والاربعين التي تحاورت فيها مع هذا الرجل أزعم أنني أصبحت أعرفه جيداً، أكثر مما يمكن أن يعرفه أشخاص كثيرون يعيشون معاً منذ فترة طويلة عن بعضهم. وافقنا على تزويد الطائرة بالوقود لمنع الخاطفين من تنفيذ وعيدهم بقتل الركاب واحداً تلو الآخر كل عشر دقائق، إلى أن غادرت الطائرة.عندما وصلت الطائرة إلى عدن، قام أحد الخاطفين بإطلاق النار على كابتن الطائرة ورموا جثته على المدرج كي تلبى طلباتهم. كان اسم الطيار يورغن شومان. ومرت أيام عدة وأنا اسمع صوته كلما أغمضت عينيّ، فأنا آخر شخص تحدث إليه عندما أقلع بطائرته من دبي. عندما أقلعت الطائرة من مدرجنا وارتفعت، قلت: حماك الله يا كابتن، وسمعت صوت الميكروفون في إشارة منه إلى أنه سمعني.بعد مقتل الطيار، تمت تلبية مطالب الخاطفين وحصلوا على المزيد من الوقود في عدن واتجهوا إلى مقديشو في الصومال. دعوت الله أن يساعد المسافرين في هذه الطائرة خلال هذه الساعات العصيبة، وشعرت براحة عندما علمت أن وحدة كوماندوز ألمانية لمكافحة الإرهاب دهمت الطائرة بنجاح، وحررت الركاب بعد القضاء على ثلاثة من الخاطفين واعتقال رابعهم (وهي امرأة) لم يُقتل أي من الركاب الذين استأثروا بكل اهتمامي وأصبحوا عالمي لفترة وجيزة، ولم يتعرض طاقم الطائرة للأذى، إلا الكابتن الذي أزهقت روحه سدى.كان شهر أكتوبر هذا طويلاً للغاية، كأنه لن ينتهي، وأضيفت فيه روح بريئة أخرى أزهقت على أرض الإمارات إلى قائمة ضحايا الإرهاب الذين كان آخرهم الطيار الألماني.كانت هناك اجتماعات في أبوظبي حضرتها مع وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام. كان يوماً مليئاً بالمباحثات حول الوضع في المنطقة. كنت قلقاً عندما ركبت السيارة عائداً متجهاً إلى دبي، وفكرت في ما قيل وأنا أشعر بانخفاض درجات الحرارة في شهر أكتوبر الذي شارف على الانتهاء. أوقفت سيارتي على جانب الطريق عندما أتاني اتصال طارئ عبر الراديو اللاسلكي في سيارتي، رفعت السماعة وتلقيت النبأ الصادم.كان وزير الخارجية عبد الحليم خدام في طريقه إلى قاعة الشرف بمطار أبوظبي عندما تعرض لإطلاق نار من قاتل مأجور. الرصاصات الغادرة أخطأته وأصابت سيف بن غباش، وزير الدولة للشؤون الخارجية بالإمارات الذي كان يرافقه. كان من الصعب عليّ التفكير أنه كان بكامل نشاطه وحيويته قبل دقائق. لقد مات وهو في قمة عطائه، وما زال لديه الكثير ليقدمه. وتساءلت في نفسي، كيف لأي إنسان أن يكون بهذه القسوة. أن يقدم على إزهاق روح بهذه البساطة؟ولأني أمقت القتل والعنف غير المبرر، فقد عاهدت نفسي أن أجعل هذا البلد آمناً مطمئناً لكل من يعيش فيه. وصرت أنظر للعنف داخل حدودنا كأنه يمسني شخصياً». «الخيمة الشمالية».. الشاهد على ميلاد الاتحاد يروي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، في أحد فصول «قصتي» الذي يحمل عنوان: «الخيمة الشمالية» الخبايا والاجتماعات التي سبقت قيام اتحاد الإمارات، حيث تُعتبر بمثابة شاهد على قيام دولة الإمارات، وتالياً نص القصة:لكل شيء بداية، وسنة الحياة أن تكون له نهاية، إلا الأحلام العظيمة لها بداية ولكنك لا ترى نهايتها؛ لأنها تكون أبقى منك إذا أخلصت لها، وتُعمّر عمراً أطول منك إذا أعطيتها كلّك.لحظات البداية هي دائماً لحظات لا تُنسى، تبقى تفاصيلها في ذاكرتك، وتبقى أحاسيسها عالقة بروحك، وتبقى لذتها ونشوتها وحماستها جزءاً من تكوينك إلى الأبد.كل شخص يذكر لحظة ولادة مولوده الأول؛ يذكر لحظة ولادة حبه الأول، يذكر أول يوم في مدرسته الأولى، ووظيفته الأولى، وأنا أذكر لحظة ولادة دولة الإمارات العربية المتحدة.استدعاني والدي في العام 1968 على عجل من بريطانيا لاجتماع مهم، كلفني بالإعداد والاستعداد لقضاء يوم كامل في الصحراء، كلفني بالإعداد لاجتماع، بعيداً عن أعين المتلصصين والمتربصين، بعيداً عن أصحاب النوايا السيئة الذين كانوا لا يحبون فكرة الاتحاد، لا يحبون اجتماع الكلمة، لا يحبون لهذه القبائل المتناثرة والإمارات المتصالحة، أن تقوم لها قائمة، أو أن تجمعها دولة.كان الاجتماع مع حكيم آخر يحكم أبوظبي منذ عامين فقط، هو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أبي الثاني ومعلمي ومرشدي وقائدي على مدى أربعة عقود كاملة، والذي كان يحمل منذ يومه الأول في حكم أبوظبي في العام 1966، همّ الاتحاد وحلم الدولة الواحدة. كان هدف الاجتماع وضع إطار تأسيسي لاتحاد بين الإمارتين تتبعه بقية الإمارات، كان هدف الاجتماع وضع الجميع أمام الأمر الواقع: اتحاد بين أبوظبي ودبي، ودعوة البقية للانضمام لتأسيس دولة الإمارات.كان هناك كلام كثير منــذ سنوات، ولقاءات غير مجدية، وتحالفات مستمرة، لتأسيس كيان اتحادي. ولكن كان هناك دائماً من يُفشل تلك المساعي، ويؤخر ذلك الحلم، حتى جاء ذلك الاجتماع ليحسم الأمور، كان اجتماع الشيخين في منطقة عرقوب السديرة، الكائنة بين أبوظبي ودبي، هو اللحظة التاريخية التي حوّلت حلم الاتحاد إلى حقيقة، ومنه بدأت نقطة اللاعودة لتأسيس دولة الإمارات.كنت قد سبقت الشيخين بنفسي لاختيار المكان، كنت الأكثر معرفة بالصحراء بين إخوتي، وكان والدي واثقاً بحسن اختياري مكان اللقاء، نصبت خيمتين؛ واحدة للشيخين، حيث جعلت موقعها مواجهاً لنسيم الصحراء العليل، وثانية لنا لنجلس فيها، أشعلت النار لطهي الطعام، وفي قلبي نار من الحماسة والإثارة لمثل هذا اليوم الذي عرفت بأنه سيكون له ما بعده، عرفتُ أن الكلام الذي نسمعه منذ سنين طويلة عن تأسيس دولة واحدة، سيصبح واقعاً حقيقياً بعد هذا اللقاء، جهزت كل شيء. ووصل الشيخان مع رجلين أو ثلاثة مع كل منهما، ودخلا الخيمة الشمالية منفردين لبدء المناقشات.نعم من الخيمة الشمالية في 18 فبراير 1968 بدأت دولة الإمارات.. في الخيمة الشمالية اتفق الشيخان على تأسيس اتحاد ثنائي، في الخيمة الشمالية اتفقا على البنود التالية: علم واحد، نظام صحي واحد، نظام تعليمي واحد، أنظمة إقامة مشتركة، في الخيمة الشمالية أيضاً حدث شيء لا يحدث في بلاد العرب، ولن يحدث لعقود طويلة، حيث تنازعا الرئاسة في تلك الخيمة. طلب زايد أن يكون راشد للاتحاد الجديد، وراشد يبتسم ويُحرّك سبحته بيده ويقول: أنت الرئيس! في الخيمة الشمالية دار نقاش حول هذا الموضوع، وشد وجذب، حتى وافق زايد على أن يكون رئيساً، ومد راشد يده له متفقاً وموافقاً ومباركاً.أذكر ما حدث في الخيمة الشمالية اليوم، بعد خمسين عاماً وقلبي يعتصر على دول عربية أضاعت حياة الآلاف من شعوبها، وأهدرت المليارات من ثرواتها، وخسرت سنوات من مسيرة تنميتها، بسبب القتال حول من يحكم ومن يكون الرئيس.نعم نحن مختلفون في الإمارات، وربما لذلك نجحنا، تنجح الدول عندما يأتي قادة تكون أحلام شعوبهم أكبر من أحلامهم الشخصية ومطامعهم الذاتية، تنجح الدول عندما يتخلى القادة عن «الأنا» وعن الذات، مقابل تحقيق الطموحات وخلق الإنجازات، تنجح الدول عندما تكون السلطة وسيلة لتحقيق غايات الشعب، ولا تكون السلطة هي أهم الغايات، وليحترق الشعب!قامت دولة الإمارات العربية على أيدي قادة كانت لديهم القدرة على إنكار الذات، وحققت الدولة المعجزات على أيدي هؤلاء القادة، وسيبقى أحد أهم أسرار نجاحنا، هذه القيمة التي لابد أن تستمر في جميع المسؤولين في هذه الدولة، حتى تستمر المعجزة؛ قيمة إنكار الذات لمصلحة البلاد. لابد أن نبذل جهوداً كبيرة لترسيخ قيم الاتحاد، قيم زايد وراشد، الإمارات لا يوجد فيها شخص أكبر من الاتحاد، ولا يوجد فيها حلم أعظم من ترسيخ الاتحاد، ولا توجد فيها طموحات لأحد إلا لمصلحة هذا الاتحاد.مع نهاية هذا اللقاء التاريخي بين زايد وراشد، تم الإعلان عن الاتحاد بين الإمارتين، وخلال أيام ظهرت ردود فعل مختلفة إزاء اتفاق الاتحاد، كان الملك الحسين، ملك الأردن، من أوائل الذين اتصلوا بوالدي للتهنئة بمشاعر يملؤها الدفء والإعجاب، ورحبت كل من الكويت والمملكة العربية السعودية بالاتفاق، تبعت ذلك تهنئة دافئة ـ إن لم تكن مندهشة ـ من طرف بريطانيا، ولكن، أكثر ما أسعدنا هو التهاني التي تلقيناها من الإمارات السبع الأخرى (بما فيها قطر والبحرين)، وقادتها الذين أعربوا عن أمنياتهم بالتوفيق.كان والدي سعيداً بهذا الإنجاز: إيصال اتحاد الإمارات إلى نقطة اللاعودة. وبدأت علامات الإجهاد والتعب تبدو عليه. قال لي في طريق عودتنا من عرقوب السديرة بعد سكوت طويل، محمد! الاتحاد الوليد بحاجة للحماية من الكثير من أعداء الداخل والخارج، اتفقنا مع الشيخ زايد على إنشاء وحدة اتحادية مسؤولة عن الدفاع والأمن الداخلي.محمد! أريدك أن تكون مسؤولاً عن حماية الاتحاد».

مشاركة :