الوصايا العشر في أدب الرحلة

  • 6/2/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

إن وصاياي لطلاب الأدب الذين يرون أن الرحلة تستحق حياة كاملة، يعيش الإنسان لها، مستعدا قبل السفر، ومستمتعا به خلال ترحاله، وممتنا للوصول إلى عتبات الختام. لا تتوقفوا عن القراءة ولعل وصيتي الأولى هي (لا تتوقفوا عن القراءة، وإلا فقدتم الصبر على الكتابة)، وما أدراكم بالثانية وهي حرث وغرس وريٌّ وتسميد وجني، لكنها لن تأتي إلا بالأولى؛ القراءة، فاقرأوا كنوز أدب الرحلة العربية على مر العصور، لتستمتعوا بها قبل أن تستلهموا منها، ولتتعلموا عن الآخر، قبل أن تتعرفوا إليه. وإني أرشح لكم عشر رحلات لتبدأوا بها، هي: (1) المسالك والممالك لابن حوقل، وهو من جغرافيي القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، نشأ في بغداد، وقرأ كتب معاصريه وسابقيه الجغرافية، لكنه أراد أن يضع كتابا لم يكتبه غيره، ولا أملاه عليه، فطاف بالعالم الإسلامي ثلاثين سنة،فأطلعنا على حياة أهل تلك البلدان، ولذلك لم يكن كتابه مجرد سرد جغرافي، وإنما رحلة جغرافية ممتدة في عالم شاسع فسيح. (2) أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، ومؤلفه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر، من بيت المقدس بفلسطين، لذلك سمي بالمقدسي ، ويراه مستشرقون أعظم الجغرافيين عند العرب، واهتم بالحديث عن اختلاف أهل البلدان التي زارها، في كلامهم وأصواتهم، وألسنتهم، ولون بشرتهم، ومذاهبهم، ومكاييلهم وأوزانهم ونقودهم، مثلما اهتم بتوثيق اختلاف وصفات طعامهم، وشرابهم، وثمارهم، ومياههم، بل وامتد لرصد مفاخرهم وعيوبهم، ومعادن السعة والخصب، ومواضع الضيق والجدب، والمراصد والخصائص والرسوم والممالك والحدود. بعد جولات ودخول لأقاليم الإسلام، ولقاء العلماء، وخدمة الملوك، ومجالسة القضاة والدرس على يدي الفقهاء، وزيارة الأدباء والقراء وكَتبة الحديث ومخالطة الزهاد والمتصوفين، وحضور مجالس القصاص والمذكرين، مع لزوم التجارة في كل بلد، والمعاشرة مع كل أحد، مع ذوق الهواء، ووزن الماء، وشدة العناء. (3) نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، ومؤلفها الإدريسي أكبر جغرافيي في بلاد المغرب والأندلس، تعلم في قرطبة، وتنقل مترحلا من الأندلس إلى المغرب ومصر والشام وآسيا الصغرى، حتى استقر في جزيرة صقلية. وقد اتصل حاكم صقلية، روجر، بالإدريسي، فطلب منه أن يؤلف له كتابا يبين مهارته التي اشتهر بها في رسم الخرائط، فأرسل الإدريسي طائفة من الرحالة إلى بلدان يأتون منها بالمعلومات قبل الكتابة، وفيه أشهر خريطة للعالم، من بين 71 صورة نشرت به وسمي كتابه باسم كتاب روجر، لأنه أُلف من أجله. (4) آثار البلاد وأخبار العباد، ألفه زكريا بن محمد القزويني، نسبة لمسقط رأسه في إقليم بحر قزوين، وهو كتاب طريف، جمع من أحوال البلاد التي زارها كل طرفة نادرة وعجيبة آسرة، وقُسم كتاب الآثار إلى سبعة أقاليم، مرتبا بالحديث في كل إقليم أبجديا ، وتجاوز المملكة الإسلامية إلى ذكر عجائب بلدان أوربا وآسيا وإفريقيا. (5) معجم البلدان، وضعه ياقوت الحموي، في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، رتب فيه البلدان على ححروف الهجاء، وهو سر تسميته بالمعجم، ويعرض في كل مادة تاريخها، وذكر من نبغوا بكل بلد، في العلوم والآداب، ومزج في كتابه بين رحلاته وقراءاته، فجاء معجم البلدان غنيا، لكنه لم يشأ أن يضم فيه الخرافات أو الأساطير، كما فعل القزويني، مما يجعله وثيقة جغرافية في زمانه. (6) عجائب الهند، بره وبحره وجزائره، لمؤلف بزرُك بن شهريار الناخداه، والنّاخُداه، هو ما نسميه اليوم ويسمه أهل الخليج بالنَّوخذة، ويعنى به الربّان الملاح، وهكذا كان بزرُك الذي عاش في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، ويضم كتابه الذي نشره مستشرقون في ليدن سنة 1886، حكايات ملاحين عبر رحلاتهم في المحيطين؛ الهندي والهادي، وقد أضيف للكتاب لاحقا قصصا مشابهم على منوال القصص الأصلية، فأصبح الكتاب مماثلا لألف ليلة وليلة بحرية، يحكي عن أحوال البحر وأمواجه وعواصفه، وكائنات الماء بحرية وبرية وجوية، وقصص إنقاذ البحارة، مما جعل الكتاب محببا لعالم البحارة يعطيهم الأمل في الوصول بسلام إلى مرافئهم. (7) رسالة ابن فضلان ، كانت هناك بعثات يرسلها ملوك الإسلام إلى بلدان تريد الدخول في الإسلام، ومن هذه البعثات تلك التي طلبها ملك البلغار من الخليفة العباسي المقتدر، فقد كان كثير من البلغار قد دخلوا في الإسلام، حين كانوا يقيمون في حوض نهار الفولجاـ الذي أسماه العرب نهر أتلا، وأرسل الخليفة سنة 309 هجرية (921) بعثة جعل رياستها لأحمد بن فضلان، الذي أدى المهمة، وعاد إلى بغداد فوضع كتابا في وصف رحلته إلى بلغار الفولجا، يبين في كتاب كيف ألم بأحوالهم وعاداتهم بدقة، كما وصف شعوب الخزر والروس. (8) كتاب الاعتبار للشاعر أسامة بن منقذ، ونحن نعرف عنه أنه كان أديبا وبطلا من أبطال المقاومة في المعارك الصليبية، عاش في القرن السادي الهجري (الثاني عشر الميلادي)، لوعمر أكثر من تسعة عقود، وهو من بلاد الشام، وكان آباؤه أمراء قلعة شيزَر شمالي البلاد، ونازل الصليبيين في مواقع كثيرة، ثمنزل مصر، وطاف ببلاد العرب والجزيرة العربية، وبفضل ما امتلك من موهبة قصصية، ودقة ملاحظة، سجل الحوادث التي صادفته، وفي كتابه الاعتبار باب أول للحروب والأسفار إلى دمشق ومصر، ثم أسفاره للبنان وفلسطين، من صيدا إلى طبرية، ونابلس، وغيرها. (9) رحلة ابن جبير، وهو من أسرة أندلسية، (السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي)، وقد نذر نفسه للحج تكفير عن جلسة شراب، فترك غرناطة، وركب البحر إلى جنوة، ثم الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة، وقوص في صعيدمصر، ثم عيذاب ليجتاز البحر إلى جدة، وأدى الفريضة في مكة المكرمة، ثم واصل إلى الكوفة، فبغداد والموصل، وانتقل إلى الشام، وكان يجلس ويتأمل في أحوال العرب ومستعمرات الصليبيين، حتى ركب البحر من عكا عائدا إلى بلاده على مركب لهم، نزلت في صقلية، فطاف بها، قبل أن يرحل منها إلى بلاده في 25 أبريل 1185م. وقد نشرت الرحلة بعد أن جمعها تلاميذه بعد وفاته باسم (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار)، وآثر من أعادوا نشرها، بين مستشرقين وعرب (رحلة ابن جبير). (10) أما عمدة الرحلات، التي قرأتها أكثر من مرة، مرة باحثا، وأخرى مستطلعا، وثالثة مستمتعا، فهي رحلة ابن بطوطة، أبو عبد الله محمد بن محمد اللواتي الطنجي (703 هـ / 1304 م). وابن طنجة ولد بأسرة همها العلوم الشرعية، وكان الابن يؤهل ليكون قاضيا، فدرس الفقه والأدب، لكن الحج ناداه إلى مكة، فلبى، وخرج شابا في الثانية والعشرين من عمره، فسار في طريق الحج، إلى مصر، فالأسكندرية، والقاهرة ودلتا مصر قبلها، ولا يستطيع عبور البحر في عيذاب إلى الحجاز، فيسافر إلى سيناء، والشام، قبل أن يتحول إلى الحجاز فيؤدي فريضة الحج، ومنها إلى العراق فيزور الكوفة وبغداد والموصل، ويأتي زمان الحج فيؤدي الفريضة مجددا،ثم يركب البحر إلى اليمن، ومنها إلى أفريقيا الشرقية، ويعود إلى بلاد العرب مارا بشواطئها، ليزور ظفار وعمان والبحرين، ويحج إلى مكة فيؤدي الفريضة للمرة الثالثة، ويؤوب لمصر ومنها للشام، وآسيا الصغرى، وشبه جزيرة القرم، والقوقاز والبلغار، حتى القسطنطينية، ومن بعدها إلى خوارزم وبخارى (في أوزبكستان الحالية)، ومنها لأفغانستان، فالهند، حيث تولى قضاء دهلي ، وأقم ثماني سنوات، ثم يرسله السلطان محمد شاه مع وفد للصين، يحمل هدية إلى ملك الصين، فيركب البحر إلى قندهار، ومنها إلى قاليقوط، (كاليكوت)، فتهب عاصفة تغرق المركب والهدية، فيتتنقل بين جزائر المالديف (ذيبة المهَل)، ويتولى فيها القضاء عاما وبعض عام، ومنها إلى الصين عبر جزيرة سيلان والبنغال وجزر الملايو، وفي الصين يطلع على أحوال المسلمين، قبل أن يرحل عنها إلى سومطرة، وبلاد الشام، لينزل بمصر، ويحج عبر عيذاب للمرة الرابعة، وبعدها يؤم نحو وطنه، فيمر بمصر، وتونس والجزائر ومراكش، حتى وصل إلى فاس سنة 750 هـ، وليبدأ رحلته الثانية إلى الأندلس، فيمر بطنجة، وبلاد الأندلس ويزور غرناطة، ثم يعود إلى فاس، قبل أن يبدأ رحلة ثالثة يزور فيها إفريقيا مجاهلها ومعالمها، قبل أن يرجعل إلى فاس حيث أمضى بقية حياته. وقد أمر السلطان الذي أعجب بمروياته كاتبه محمد بن جزي أن يروي عن ابن بطوطة رحلته وكان ابن جزي أديبا بارعا، فخرجت رحلة ابن بطوطا عملا استثنائيا حمل اسم (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار). أما وصيتي الثانية فهي (لا تنسوا زادا تحتاجه رحلتكم) وأعني أن تستعدوا بحقيبة لا تغادركم، ولا تفوت عليكم فرصة بالبحث عن شيء نسيتموه، فأنتم ذاهبون للتوثيق والتأريخ، فليكن معكم القلم والورق، ولتكن معكم المسجّلة والمصوّرة، أي الكاسيت وآلة التصوير (الكاميرا)، وقد يكون الهاتف النقال اليوم بتقنياته أداة للتوثيق بكتابته وتسجيلاته وصوره، فلا تنسوا أن تكون ذاكرته كافية، وإلا فلتحملوا معكم بطاقات ذاكرة إضافية ، له أو للكاميرا الرقمية، ولتتأكدوا من الشواحن والبطاريات وشرائح التخزين العملاقة، وربما تريدون مراجعة ما صورتموه فأحضر وا رابطا يصل أجهزتكم بجهاز متاح للعرض في غرفة الفندق، مثل التلفزيون أو اللاب توب، فالأفضل أن تتأكدوا من أن حصاد اليوم مكتمل، فلا سبيل للرجوع إذا غادرت مكانكم. وصيتي الثالثة هي (كونوا أطباء أنفسكم) فلا تتناولوا طعاما أو شرابا إلا وأنتم واثقون من صلاحيته، فتطمئن له أنفسكم قبل معدتكم، فأنتم لا تريدون للرحلة أن تنقلب إلى رحلة علاجية. وربما تضيفوا للقائمة أدوية للبرد والمعدة، وشرائط لاصقة للجروح، فكلهاضرورية لتطبيب أنفسكم لا تتركوا وثيقة تفوتكم وصيتي الرابعة (اجمعوا وثائق الرحلة بدقة)، فأنتم تجمعون بين الحواس الخمس، لكن لا تنسوا الحاة السادسة التي ترشدكم إلى وثيقة نادرة ودقيقة. حدث هذا معي حين كنت أزور طهران: فإحدى أوراق الإجازة الصادرة عن الرقابة الحديدية للسافاك قبل سقوط الشاه، كانت داخل صفحات ألبوم وتحمل أختاما وتوقيعات، وإشارات بمنع تداولها. أجد تحت عنوان (درباره رسالة آيت له خميني)، هناك إجازة من رقابة السافاك بإجازة نشر إحدى رسائل الإمام الخميني: (تجديد چاب رسالة رسالة آيت اله خميني ازنطراين سازمان بلا مانع ميباشد لكن حسين مصدقي صلاحيت چاب رسالة مزبور راندارد. هـ رئيس سازمان اطلاعات وامنيت كشور. سبهبد نصيري). رسالة الإمام المجازة ربما تكون مع أخواتها إشارات زرعت شرارات الثورة الإسلامية حين كان الجميع يتداولونها، حتى بعد نفيه. ورقة دقيقة الحجم، شديدة الأهمية، كبيرة المعنى، وخطيرة الدلالة، أصبحت وثيقة، وقد التقطت صورتها وأضفتها إلى استطلاعي المنشور عن العاصمة الإيرانية في مجلة (العربي). لا تُضَيّعوا قراءكم وصيتي الخامسة (انقلوا قراء رحلتكم معكم)، حدثوهم عن ملمس ما تمسكون، وبهاء ما ترون، واختلاف الروائح التي تشمون، ولذة الأطعمة التي تتذوقون، وفُرادة الأنغام التي تسمعون، اجعلوهم يستمتعون بحواسهم معكم، فلا تعطلوا حاسة من الحواس. لا تنسوا أنكم جواسيس إن وصيتي السادسة هي محاكاة ما يفعل الجاسوس؛ فهو ينقل ما لا يستطيع سواه أن ينقله، بالطبع لا أطلب منكم أمورا عسكرية أو سياسية، ولكن عليكم أن تضعوا آذانكم على صدر المجتمع، فتسمعوا أناته، وتصغوا لآهاته، والمستطلع الحق، كاتب الأدب، هو المرآة الصادقة، فلا يزيف الصور، فأدب الرحلة ليس يعني أن تكتب منشورات سياحية، فتعرّف إلى الناس في مختلف مقاماتهم، واسمعهم، وسجل ذلك، ستحتاج كل مفردة في رحلتك الأدبية المدونة. لا تهملوا الوقائع الوقائع تعني ما يقع أو يحدث، وليست هناك أكثر من الصحافة توجز لك ما جرى خلال رحلتك، ووصيتي السابعة هي: لا تنسوا أن تكونوا صحافيين خلال الرحلة، اشتروا جريدة واحدة على الأقل كل يوم ومجلة أو أكثر إذا بقيتم أسبوعا، مكتوبة بلغة تستطيعون تفسيرها، فهذه الوقائع ستحل لكم كلمات الرحلة المتقاطعة، وستفسر لكم ما يفعل الناس، إن لم تستطيعوا سؤالهم. لا تهينوا اللغة لو استطعتم أن تكتبوا الرحلة بلغة الشعر، فافعلوا، فالرحلة وثيقة أدبية بلغة الأدب، لذا أوصيكم ثامنا أن تكونوا شعراء وروائيين، وكونوا نقادا للأدب والفنون، من عمارة وغيرها، هذه فرصتكم لتتحدثوا عن ذواتكم عبر رحلاتكم. احترموا اللغة احتراما يجعل القراء يتذكرون تشبيهاتكم الفريدة، ومجازاتكم الاستثنائية، ومفرداتكم الخاصة بكم. لا تنسوا علما لا تفيدكم الآداب والفنون وحسب، بل إن العلوم أكثر إفادة من سواها، ووصيتي التاسعة ألا تنسوا علما، وأهم العلوم بنظري لأديب الرحلة هو علم الإناسة، أو الأنثروبولوجيا. لا تنسوا أنكم رحّالة وأخيرا، وصيتي العاشرة، لا تنسوا أنكم رحالة! فإذا كنّا حرمنا من السفر خارج أوطاننا، بعد توقف المطارات عن استقبالنا، فلنسافر إلى بقاع متاحة داخل بلادنا، أماكن لم نزُرْها من قبل، واكتبوا عن دهشة اللقاء الأول بتلك الأماكن، واحكوا لنا عن تجربة تلك الرحلة، فربما جاء وقت قريب لنلتقي فيها، حين تعود الرحلات وتفتح لنا السماء مجددا.

مشاركة :