كثر الحديث عن الأولين من البشر، ممن التصقت بهم عادات وخصال جميلة وقيم أخلاقية عالية، اندثر بعضها، وظل البعض الآخر صامدا، لكن ليس بالشكل المعهود في ذلك الجيل؛ إذ لم تعد الشعائر المجتمعية وحزمة الخصال الإنسانية تمارس أو تشاهد بالمعنى والمفهوم الذي يدل دلالة واضحة على قدم وعراقة من يقومون بها، فحين نتلفت حولنا بحثا عن تلك القيم التي ألفناها من قبل، قلما نستشعر ذلك الإحساس الجميل، لندرك بعد حين أن الأمر ليس طبيعيا ولا عفويا؛ لخلوه من رائحة الماضي وعبقه الأصيل، وأنه لا يعدو أن يكون تصنعا وزيفا. إن الإسهاب في الحديث عن ذلك الجيل في المجالس الأسرية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والاستئناس به في المحافل الرجالية والملتقيات النسائية أفضيا إلى نعت تلك الفترة الزمنية الجميلة التي صاحبت حضورهم، وزامنت وجودهم تجاوزا بجيل الطيبين، فأصبح هذا الوصف سمة بارزة لكل ما هو نادر وجميل. فيا ترى، لِمَ تكرار التغني بجيل ورعيل أخذ وقته وزمانه؟ ولِمَ الإصرار في التباكي على أطلال قد خلت ولم يبق منها إلا النذر اليسير؟ وهل الطيبة التي يتحدثون عنها هي في حد ذاتها أيقونة وقتية؛ بمعنى أنها مقتصرة على زمن محدود بحيث تنقضي وتفنى بانقضاء ذلك الجيل ورحيل أصحابه، أم أن هناك دوافع وظروفا اقترنت بذلك الزمن الجميل؟ في المقابل، كان لعامل التطور وعنصر التمدن مع اختلاف الأزمنة بالطبع دوران محوريان في هذا التفاوت الذي أدى بطبيعة الحال إلى هذا التباين الشاسع الذي نلحظه في مفهوم الطيبة وفعل المعروف، ما زلت أتساءل عن زمن فاضت فيه مشاعر الحب والصدق والبذل والتعاون، وانعدمت فيه مشاعر البغضاء وبث أنواع الكراهية، زمن لا وجود للحقد والحسد بين أقرانه لن يعود. إن الحديث عن الزمن الجميل أو جيل الطيبين سيطول، ويمتد النقاش حوله بامتداد الشجون فيه، فالجيل الذي ما زال كثير من كبار السن فيه يدندنون «سمفونية» في شوق ووجد، ويدور في فلكه إلى أن تذرف كلتا عينيه لن يتكرر أبدا، السؤال المطروح ها هنا ليس من قبيل الاستفهام أو الاستعلام فقط عن حقيقة تلك الحقبة ومصداقية المرويات التي تُروى عنها، أو القصص التي تقص فيها، بقدر ما هو محاولة من الكاتب لاستنطاق جملة المعاني الجميلة التي فُقدت في ضوء المتغيرات والمستجدات الحديثة، التي طغت على مشاعر الألفة. إن الإحاطة بمفردتين صغيرتين ما زالتا تشكلان بوتقة المشاعر الإنسانية كاملة، تم تداولها عن جيل ارتبطت معه الأفعال الحميدة والأقوال المأثورة ارتباطا وثيقا، حتى غدا جيل اليوم يتساءل وبحرقة عن حقيقة ما تتناقله الأفواه وترويه الألسن عن أجواء لا تحضرها إلا المحبة، أجواء لا يمكن أن تكون إلا أجواء لجيل ملائكي إن صحت العبارة، في غمرة ذلك فإني لا أستطيع أن أجزم بأن جيل اليوم يفتقر إلى كامل جماليات الأيام الخوالي، فالإطلاق بانعدام الجمال بالكلية أو ندرة الخصال الحسنة فيه تماما هو تجنّ على هذا الجيل، وخطأ كبير قد أقع فيه، لكن حسبي من ذلك أن أستثني هذا الكمال بالشيء القليل والأمر اليسير، فالجمال في واقعه غير مرهون بموطن أو فترة زمنية بعينها، والخير لا يمكن أن يحده حد مكان أو زمان.
مشاركة :