نعيمة في نعيم العقل

  • 1/15/2019
  • 00:00
  • 26
  • 0
  • 0
news-picture

حتى مطلع الألفية الحالية، كان الصوماليون من الجنسين، هم الأسوأ أداء مدرسيا من بين جميع الجنسيات المهاجرة المقيمة في بريطانيا، فنحو 20% منهم فقط كانوا يحصلون على شهادة ثانوية تؤهل لمواصلة الدراسات الجامعية؛ ورغم أن القانون البريطاني يعاقب والدي أي تلميذ يترك المدرسة قبل إكمال المرحلة الثانوية، فإن القانون يقف عاجزا أمام تسرب الصوماليين من المدارس البريطانية. والسبب في كل هذا هو أن آلاف الصبية والشباب الصوماليين هربوا من ويلات الحروب الأهلية في بلادهم في غياب الأبوين، والإنسان الذي لا يجد رعاية منزلية معذور إذا جنح وانحرف، وعن التعليم انصرف، والشبان الذين يهاجرون إلى دول غربية من بلاد مستقرة، يجنحون بعد أن تستهويهم قشور الأمور من مخدرات ورقص وخمور، فما بالك بمن يأتي من بلد كالصومال، لم تفلت فيه عائلة واحدة من مطحنة الحرب ولا يوجد فيه فرد واحد لم يفقد قريبا من الدرجة الأولى برصاصة هوجاء. نعيمة شريف ظاهر شابة صومالية، وصلت إلى لندن مع أبويها قبل سنوات. تزوجت في بلادها وعمرها 16 سنة وطلقت بعد سنة واحدة على زواجها، وخرجت من تلك الزيجة بطفل اسمه يونس؛ وعندما حطت العائلة الرحال في لندن في عام 2003 لم تكن نعيمة تعرف من الإنجليزية سوى «أوكي»، ولكنها كرست كل وقتها لتعلم الإنجليزية ونجحت في الالتحاق بمدرسة كامدن كوميونيتي في وسط لندن. بعكس معظم مدن العالم الكبرى فإن أحياء وسط وقلب لندن مأهولة فقط بالفقراء، وترتفع فيها معدلات الجريمة على أيدي عصابات محلية: السود ضد البيض، ثم البيض ضد الآسيويين والسود، وهؤلاء ضد أولئك؛ وأدركت نعيمة أن بقاءها في تلك المدرسة حيث لا يستطيع المعلمون السيطرة على الطلاب سيكون بلا طائل، وهكذا مكثت نحو عامين في البيت، وهي تدرس بالعون الذاتي، ثم التحقت بمدرسة وستمنستر كولدج، ووجدت الترحاب من أسرة المدرسة. ما من صحيفة في بريطانيا إلا نشرت قصة نعيمة، فخلال عام دراسي واحد اختزلت مشوار عدة سنوات وأحرزت في امتحانات الشهادة الثانوية درجة ممتاز في خمس مواد ودرجة جيد جدا في خمس مواد أخرى، ثم جلست لامتحان الشهادة الثانوية المتقدمة A Level في مواد الكيمياء والرياضيات والأحياء وعلم النفس لأنها كانت تريد الالتحاق بكلية الطب؛ و«عليك نور»، دخلت كلية الطب بالمزيكة، وهي اليوم طبيبة يشار إليها بالبنان، وقد مضت سنوات على تجربة نعيمة الرائعة، ولكنها تظل قدوة لكل طالب من خلفيات اجتماعية بائسة وتحفيزا له/ لها لبذل كل الجهد لتحقيق الطموح المنشود، فنعيمة لم تستسلم لقسوة الظروف، ولم تختر الطريق السهل الذي يسلكه كثير من اللاجئين في بريطانيا: علام التعب والتحصيل العلمي والبحث عن عمل، طالما أن الحكومة تعطيني ما يكفي لأكلي وشرابي ومسكني؟ وما كان بإمكان نعيمة أن تتفوق لولا أن والديها زرعا فيها حب التعلم وشجعاها على الدراسة، ووفرا لها المناخ الملائم كي تستذكر دروسها وتتفوق، وبالمقابل يخيب ويفشل عيال من عائلات ميسورة في دراستهم في الخارج بسبب غياب مساءلة الوالدين: الولد يدرس «برّه» هي الغاية، ولكن ماذا وكيف يدرس تبقى مسألة متروكة له، ومن ثم قد يترك الدراسة ويسير في خط معاكس لخط سير نعيمة الصومالية. مثل معظم أبناء وبنات جيلي لم يكن أبي وأمي يعرفون ما مغزى أن أحصل على 30 أو 90 من 100 في مادة دراسية، ولكنهم كانوا يرصدون حركاتي وسكناتي للتأكد من أمر مهم، وهو أن أكون مؤدبا ومنضبطا، وأغلى دمعة رأيتها في حياتي كانت تلك التي طفرت من عيني أبي عندما اكتشف أنني أدخن السجائر وأنا طالب في الجامعة، ولم يكن بحاجة إلى ضربي أو زجري لأعرف فداحة «الخطأ»؛ وربما لم يعاقبني لأنه أحس بأنه كان هناك تقصير من جانبه في تربيتي، ولكن دموعه تلك حملتني على هجر التدخين، ولكن الغريب في الأمر هو أنني عدت إلى التدخين لاحقا، ولم أقلع عنه إلا بسبب دموع عيالي: بابا حتموت لو شربت سجاير.

مشاركة :