حلمي موسى شعرت الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين عموماً، وسكان قطاع غزة خصوصاً، بالخيبة الشديدة، جراء عودة سلطتي فتح وحماس للتراشق وتبادل الاتهامات والإجراءات، في تجسيد جديد لسياسة «حافة الهاوية» وتكريس الانقسام. فقد خرجت المحكمة الدستورية بتوصية حل المجلس التشريعي التي تبنتها وروجت لها السلطة في رام الله، فردت عليها سلطة غزة بعقد اجتماع لما تبقى من المجلس التشريعي لنزع الشرعية والأهلية عن الرئيس محمود عباس.نظراً لأن جانباً مهماً من آثار الصدام بين الجانبين يظهر بارزاً في قطاع غزة، حيث سحبت سلطة رام الله موظفيها من معبر رفح، فإن الدور المصري بالغ الأهمية في تحديد وجهة الأمور. وفي ذروة الأزمة المعيشية والسياسية الخانقة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، أوصل الصدام بين الطرفين إلى حد إعلان القيادي في حماس محمود الزهار أنه «لا مصالحة في ظل وجود برنامجين متناقضين». وليس معروفاً بعد إن كان لإعلان خمسة فصائل يسارية فلسطينية تشكيل «التجمع الديمقراطي» لإنهاء الانقسام وتوفير بديل وطني، أي تأثير في الواقع ومنع مزيد من التدهور. تستبشر الجماهير الفلسطينية على الصعيد الوطني خيراً بالعام الجديد، وتعتقد أن العام الماضي كان بالغ السوء، لأنه لم يحقق أياً من أمنياتهم الكبيرة في التحرر، وفي إنهاء الانقسام. وحمل العام الجديد معه بوادر تصعيد داخلي عنيف، خصوصاً مع ما رافق الحديث عن الاحتفال بذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية وحركة فتح من مناكفات في غزة. واشتدت حملات الاعتقالات في غزة ضد قيادات فتح المناصرة للسلطة في رام الله، وحملات الاعتقال في الضفة لمناصري حماس. والمحزن أن تكريس الانقسام يتم في ظل برنامج إنهاء القضية الذي يروج له الاحتلال والإدارة الأمريكية.ويرى كثيرون أن الصدام بين طرفي الانقسام محتوم بسبب غياب منطق الشراكة والبيت الوطني. وفيما يعلن طرف أنه صاحب الشرعية الوحيد، يعلن الطرف الآخر أن لا شرعية له. ويهدد طرف الطرف الآخر بالانتخابات، فيرد الثاني على جاهزيته لها، رغم أن الواقع أشار إلى أن الانتخابات ذاتها سهلت الانقسام، بسبب التأسيس الخاطئ، وغياب منطق المؤسسة والعمل العام. ومع ذلك يتكرر الحديث عن الانتخابات خلال ستة شهور، وكأنها الوصفة السحرية لإخراج الفلسطينيين من الأزمة. ويعتقد أنصار هذه الوجهة أن «الحوار» لم يعد مجدياً، وأن «اللعبة انتهت»، وأن المطلوب «إجراءات قاسية» ل«تقويض سلطة حماس». ويستسهل كل من طرفي الانقسام الفلسطيني تسويغ خطواته، ومنحها صفة الوطنية، في حين يرفض خطوات الطرف الآخر، ويعتبرها خيانية. فالشرعية في نظر كل طرف تقف في جانبه، وليس للطرف الثاني أية شرعية. وهو في ذلك مستعد للقفز على كل المعطيات، فلا شيء يجب أن يعيق تحقيق الفكرة المغروسة في الذهن، وكأن الوطن ليس أكثر من مزرعة أو دكان ورثها أو «وضع يده» عليها. وهكذا وطوال الشهور الأخيرة من العام الماضي، امتلأت وسائل الإعلام صراخاً حول الإجراءات القاسية التي ستتخذ «لتقويض سلطة حماس» وإجبارها على «تسليم القطاع». والمشكلة الأكبر أن الإجراءات القاسية هذه لا تتخذ ضد حماس، وإنما ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وهي أحياناً تزيد حماس قوة. وتحدثت أوساط مقربة لسلطة رام الله عن أن الرئيس عباس «قرر أن ينتقل إلى مرحلة التنفيذ تحت شعار كل شيء أو لا شيء»، وأن «قرارات مرتقبة تتعلق بوقف تمويل الانقلاب وإجراء انتخابات، وربما قرارات سياسية ذات مغزى، إذا لم تستجب حماس». وكانت الحوارات على مدار العام الأخير قد شهدت صعود عبارات من نوع تسليم غزة «من الباب للمحراب» و«فوق الأرض وتحتها»، وما شابه، وهي عبارات زادت الوضع تأزيماً. في كل حال، هناك إحساس واسع، بأن الوضع الداخلي الفلسطيني سيزداد تعقيداً خلال الشهور المقبلة. فحل المجلس التشريعي، وإعلان الدعوة للانتخابات، لا يعني أن ذلك ممكن التحقيق. فالانتخابات تحتاج، عدا القرار والتوافق الفلسطيني، إلى موافقة «إسرائيلية»، وغطاء دولي. وبقراءة بسيطة للأمور، يصعب تخيل الحصول على موافقة «إسرائيلية» خصوصاً في القدس. وقد أعلن الرئيس عباس أنه لا انتخابات من دون القدس. وهذا ما دفع عدداً من قادة السلطة للحديث عن انتخاب «برلمان دولة فلسطين». ومن المؤكد أن كلاماً كهذا لا يعني سوى هروب أشد إلى الأمام، وتهرب من استحقاق الانتخابات الفعلي. كذلك، من شبه المؤكد، أن من أوصل الوضع الداخلي الفلسطيني إلى هذا الدرك، خصوصاً مع غياب مرجعية عربية مقررة، لن يكون قادراً على إخراج العربة من الأوحال. وليس مصادفة أن يحذر قيادي فلسطيني من مواصلة دحرجة الأمور إلى المزيد من التوتير الداخلي، لأن النار ستدخل كل بيت، ولذلك يجب وقف الانهيار. فالمسألة لم تعد صراعاً أو إدارة أزمة بين طرفين فلسطينيين، وإنما هي صراع على ظهر الفلسطينيين، وعلى حساب قضيتهم. ومن المؤكد أنه لن تجد نفعاً كل العبارات القانونية والتبريرية والتسويغية، إذا ظل قطب هنا يُخوِّن أو يُكفِّر القطب الآخر. كما أن الاعتقاد أن الوطن لا يمكن أن يسير إلا على سكة واحدة، مخالف للمنطق والواقع. فهناك حاجة للإقرار بالاختلاف، والتعامل بالضواغط المتقابلة، والحقوق المصانة للمواطنين والجماعات، واعتماد أعراف مقبولة ومرعية. عموماً لا يبدو أننا نتجه نحو إيجاد حلول عقلانية للأزمة القائمة، وهو ما يعزز ثقة اليهود والأمريكان بإمكانية إنهاء القضية الفلسطينية. فالرئيس عباس في حوار مع الصحفيين المصريين تحدث عن ابتعاد حلم الدولة الفلسطينية، وحذر من كيانات فلسطينية منفصلة في الضفة والقطاع. وأشار إلى أن المحكمة الدستورية قررت «إجراء انتخابات خلال 6 أشهر، وإذا لم تحصل انتخابات في القدس لن أقبل أي انتخابات». وأضاف أنه طالما لم تتحقق المصالحة، فسوف «نلغي كل شيء بيننا وبينهم، ولن نستمر بدفع 96 مليوناً شهرياً، حيث إنهم يجبون مستحقات الكهرباء حتى الآن، ويقومون ببيع الدواء الذي نرسله لهم». وفي المقابل، أعلن عضو المكتب السياسي لحماس محمود الزهار أن «المصالحة الفلسطينية لا يمكن أن تتم في ظل وجود برنامجين متناقضين، وهما برنامج المقاومة وبرنامج التنسيق الأمني». وأمام هذا الواقع، تدرك كل الفصائل الفلسطينية أن الحوارات من أجل المصالحة وصلت فعلياً إلى طريق مسدود، وأن على المصريين الذين يرعون حوارات المصالحة الثنائية «بقرار عربي» أن يبحثوا عن آليات عمل أخرى. وتقترح فصائل التجمع الديمقراطي العودة إلى آليات الحوار الوطني الشامل، وتفعيل الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير. وترتكز مبادرة التجمع الديمقراطي على المطالبة بوقف التراشق الإعلامي بين الجانبين، والخروج نحو خطاب وطني وحدودي يساهم في تعزيز الحالة الوطنية. والمؤسف أن يبدأ العام الجديد والآمال بتحقيق المصالحة واستعادة الوحدة أبعد مما كانت في أي وقت مضى.helmi9@gmail.com
مشاركة :