الدول العريقة في سياستها، المعولة على تماسك جبهتها الداخلية، والمتجانسة في مكوناتها الوطنية، لا يمكن أن تُجْتث بالأحداث من فوق الأرض. قد تكون الرياح عاصفة، ولكنها لا تعدوا تحريك الأغصان. والمملكة العربية السعودية منذ عهد المؤسس، لم تمر بفراغ دستوري، لأن أنجال الملك عبدالعزيز - رحمه الله - يعرفون مواقعهم، وأدوارهم في لحضات الفراغ الدستوري، وفي زمن الامتلاء. ولهذا يتم انتقال السلطة بانسيابية، تثير إعجاب أساطين السياسة. عندما توفي الملك عبدالعزيز - رحمه الله - كنت في مستهل العقد الثاني من عمري، ولم أكن أمتلك في هذه السن الوعي السياسي، ولكنني أقرأ مشاعر مَن حولي. لقد أصيبت الأمة في حالة من الذهول، وانطلق الناس يتداولون مخاوفهم بسرية تامة. حتى لقد أحسست بأن شيئا ما، يجتاح البلاد. وخلال أيام بدأ الهدوء، وانداحت السرائر، وعاد الناس إلى ماكانوا عليه. فيما بعد أدركت أن الناس لم يكونوا على يقين بأن الفراغ الذي تركه الملك [عبدالعزيز] يمكن أن يُسَدَّ بسهولة، وبدون ثمن باهض التكاليف، ولكن الأمور أَخْلفت الظنون. إذ تلقى أكبر أنجال الملك [عبدالعزيز] الراية باليمين،وأخذ البيعة بحقها، وبدأت مرحلة التأسيس للمجتمع المدني المتوازن. وتعاقب من بعد الملك [سعود] -رحمه الله - إخوانه، ولكل واحد منهم اهتماماته، وأولوياته، والظروف التي تفرض عليه أسلوب الأداء. فمنهم من تولى الحكم،والوطن العربي في أوج اضطرابه، وذلك بسبب تلاحق الانقلابات العسكرية، القائمة على تهييج الشارع العربي بِدَوِيِّ البلاغة الفارغة من كل معنى. ومثل هذه الظروف تتطلب حماية الثغور الفكرية، والجغرافية. وقد تشغل الحاكم عن بعض المشاريع الداخلية، والخطط التنموية. حصل شيء من ذلك في عهد الملك [فيصل بن عبدالعزيز] -رحمه الله - حتى لقد ضُرِبت أطراف البلاد، مما أدى إلى تأخر شيء من خطط التنمية، أو تثبيطها، أو الإبطاء في إنجازها. وقد تكون الظروف الأقتصادية دون المؤمل، بسبب انخفاض سعر النفط، بوصفه المورد الرئيس. وهذه الأزمات الاقتصادية تحد من طموحات الدولة، وتحملها على إعادة ترتيب أولوياتها،وجدولة مشاريعها. وقد لا يكون الرأي العام في هذه، أوتلك قادراً على استيعاب المواقف، وتفهم الظروف الطارئة، والتعامل معها بوعي تام. ومع هذا الارتباك يكثر اللغط، وتتنوع الأقاويل، وقد يمتد بعض هذا إلى تزييف وعي الرأي العام، من المتربصين بالوطن الدوائر. وهكذا تمر البلاد بحالات صعود، وهبوط، وجزر، ومد. بحيث لا تملك الدولة الخيار الأفضل في اتخاذ القرار، فالظروف الأمنية، أو الاقتصادية قد تفرض خيار الاضطرار. واليوم وقد بايعت الأمة راضية، مطمئنة خادم الحرمين الشريفين الملك [سلمان بن عبدالعزيز] حفظه الله، ووفقه، وسدد على طريق الحق خطاه. يتسارع الجادون، والفضوليون في موضعته، وقراءته، وبخاصة بعد حزمة الأوامر الملكية الواسعة النطاق. ولكل قارئ إمكانياته، وأنساقه الثقافية، واهتماماته المراوحة بين الأممية، والمحلية. ولأن سقف الحرية مرتفع، فإنه يمنح القراء فضاءات واسعة، تمكنهم من القول في أدق التفاصيل. والقراء كلهم مجتمعون، أو متفرقون لن يقولوا كلمة الفصل، لأن مايدار وراء الكواليس، لا يحكمه الهوى، ولا تصرفه الرغبات الفردية. وإنما تحكمه الحسابات الدقيقة. وفِرقُ العمل قد يفاجئون الرأي العام بما لم يكن في الحسبان، لأن الدولة دولة مؤسسات، وشُعَبُ خُبراءٍ، ومستشارين، وليست دولة أفراد، بحيث يتوقع الناس أن كل شيء سيتغير. نعم هناك رؤى، وتصورات، قد تتبادل المواقع. وهناك أولويات قد يسبق بعضها بعضا، ولكنها قد لا تستجيب للقراءات الجامحة، ولا للرغبات الذاتية. خادم الحرمين الشريفين تلقى الراية، ولم تكن يده غريبة عن ساريتها، ومن ثم فإن المشاريع التنموية التي بدأت، ولم تكتمل في عهد الفقيد، ستمضي، وكأنه قائم عليها. والمشاريع المرتقبة التي يراهن عليها قراء العهد الجديد، قد تأتي في الوقت المتوقع. وقد تأتي بالحجم المتوقع أيضا، ولكن أحداً لا يستطيع أن يلملم أطراف القراءات الخافتة، والجهورية. المؤكد أن من أولويات تطلع الرأي العام المحافظة على مانحن عليه من أمن، ورخاء، واستقرار، وتماسك متين للجبهة الداخلية، وصفاء فيما بين أطيافها. وما فضل يأتي للنظر في بعض المشاكل كـ[ البطالة، والإسكان] وإنجاز المشاريع المتعثرة، والدفع بوجوه جديدة شابة، ومؤهلة تواكب المرحلة، وتحقق الطموح.ولسان حال المتطلعين والمراهنين يردد:- [وفي النفس حاجات وفيك فطانة... سكوتي بيان عندها وخطاب] كل القراء متفائلون، على الرغم من أن الأوضاع العربية المتفاقمة، وانهيار سعر البترول، قد يكون لها أثر على تطلعات المواطنين. وعلى الرغم من كل التحفظات فإن العهد الجديد قادر على التعامل مع كل الاحتمالات السيئة. كل الذي أوده أن يوضع أهمية لنبض الشارع، شريطة أن لا يكون هو الموجه الوحيد، فالشارع على الرغم من غرائبية بعض القراءات عنده، إلا أنه يصيب كثيرا من المفاصل. وحين تكون القراءات غير تآمرية، ولا تشاؤمية، ولا مناوئة، ولا عدوانية فإن من الخير لصناع القرار أن يمنحوها شيئا من الأهمية، على حد:- [ ويأتيك بالأخبار من لم تزود]. المملكة العربية السعودية المغبوطة في استقرارها، وأمنها، ورخائها، وتماسك لحمتها الداخلية،تمتلك مثمنات متراكمة، منذ عهد الملك عبدالعزيز،حتى يومنا هذا، والأمة مطالبة بحفظ الساقة، ليتمكن الرائد من استشراف المستقبل. مايبعث على الثقة والاطمئنان أن خادم الحرمين الشريفين شريك فاعل في كل ما هو ماثل، وهو بلا شك سيمارس العصف الفكري، ليكسر الرتابة والنمطية. والمملكة بإمكانياتها: الحسية، والمعنوية قادرة على تحقيق الطموحات والتطلعات المعقولة، التي لا تتجاوز بمثالياتها حد المقدور عليه. إننا لكي نسعد بالمنجز، لابد أن تكون طموحاتنا متمشية مع إمكانياتنا، وألا تكون قراراتنا المصيرية ذات أعراض جانبية. إن واقعاً عربيا تتحمل المملكة شطرا من تكاليفه، وإدارة أزماته، سيكون سببا في تأخير كثير من التطلعات، التي يراهن عليها المواطن. وهذا قدرنا العصيب، الذي لا نستطيع أن نتخلص منه بجرة قلم. فلنكن قادرين على وعي المرحلة، بكل ما تنطوي عليه من معوقات، لم نكن سببا فيها، ولكننا لن نسلم من دخنها. وعلى المتطوعين بالقراءة، ألا تكون قراءاتهم باذخة، ومنفصلة عن الواقع. إن قراءات كثيرة لم تضع أي اعتبار للممكن، والمستطاع أفسدت علينا لذة النجاح، وقزمت عملقة النعم، فلنكن شاكرين، لنظفر بالمزيد، ولنكن قانعين لنسعد بالممكن. أقول ماتقرؤون، و أنا أحتفظ بقول الشاعر: [شَبَابٌ قُنَّعٌ لا خَيْر فيهم.. وبوركَ بالشبابِ الطامحين]
مشاركة :