تتعدّد الأمثلة والحقيقة واحدة: أنّ إغراءات الفخر والقوة ونزوعات الهيمنة والأطماع لدى بعض الدول محرّضات قوية للتدخّلات بعيداً عن الذرائع الواهية تحت شعارات الحريّة والعدالة وحقوق الإنسان وضمان الأمن والسلام العالميّين وكذلك احتواء المارقين على شعوبهم.. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستطيع المراقب - بحياد - لما يحدث في عالمنا المتقدّم أن ينجح في أن يجد تفسيراً مقنعاً وواقعيّاً لحالة الهزيمة التي مَنِيَ بها العقل. ولو حاولنا الاستعانة بقدراتنا العقلية وخبراتنا الواعية والمتبصّرة لفهم أو تخمين أو تكوين تصوُّر مُقنِع لتلك الأحداث ستكون حصيلتنا خواء وتصوّرنا وهم كاذب وسبكنا للوقائع ونتائجها سبك زائف. ومن ثمّ فإنّ عالمنا بشساعته وتحقيقه كل هذا التطوّر التقني المذهل غير قابل للفهم إذ يفترض أنّه يعتمد فكرة إمكانيّته مفاهيمياً فيما هو يفتقد لهذه الإمكانية في ظلّ عجز الجميع عن فهم أسباب حدوثه وتفسير تغوّله وشراسته التي تكاد تُجهِز على الرمّق الأخير من إنسانيّته وخيريّته المُرتجاة. هذه الهزيمة للعقل طالت العالم بأسره مبتدئة ببعض دول الغرب الذي برغم إرثه الثقافي والفلسفي والإنساني لم ينجُ من الوقوع في وهدة هذا الإخفاق الذريع ولم تسعفه فلسفته على امتداد تاريخها لا سيما تلك التي تبنّى حلولها رينيه ديكارت "أبو الفلسفة الحديثة"؛ والذي اقترح ودافع عن مقاربة جديدة للعلم والفلسفة وشدّد على تحليل المشكلات المعقّدة إلى مهامّ بسيطة، وعلى أهمية ضمان صدق الحلول التي يقدّمها شخص بالاعتماد على العقل وحده والأدلة القاطعة. كل تلك القيم والإرث الثقافي والحضاري تهاوت أمام نزوعات الشّر والهيمنة والأطماع في الاستئثار بخيرات الشعوب فكان ما كان من حروب جائرة واعتداءات سافرة وتدخّلات في سياسات الشعوب وغيرها من تجاذبات لم تكترث بأي رادع أخلاقي أو قيمي أو ديني وإنساني أو حضاري. ولعل في تاريخ الأمم وتعاقب قوّتها ومراحل ضعفها ما يؤكّد تلك الأطماع والشرور وانهزامات صارخة للعقل وللإنسان في أدقّ تجليّاتهما. العامل البراقماتي وسياسة الاحتواء التي تنتهجها بعض الدول نموذج صارخ لهذه الازدواجية في تعاملها مع الدول؛ فنجدها تحترم سيادة كل الدول ووحدة أراضيها ما عدا تلك الدول التي تختار الدولة المهيمنة مهاجمتها وهي امتداد لسياسات تعسفية وعقائد متجذرة في عقول ووجدان بعضها الذي يعدّ - ضمن عقائده - أنّ الحرب خطأ فقط في حال فَشِلَتْ..! ومن التلاعبات اللفظية والذهنية التي تستبطن معاني أخرى تخالف حقيقة مدلولاتها - على سبيل المثال لا الحصر- يكشف لنا الفيلسوف واللغوي والمؤرخ والناشط السياسي الأميركي نعوم تشومسكي في إحدى مقالاته؛ عن مصطلح «استقرار» الذي يُضمر معنىً تقنيًا في ظل الحديث عن الشؤون الدولية ونزعة الهيمنة؛ وبالتالي، وفقاً لتشومسي- لم يندهش أحد حين وضع المحرّر السابق في صحيفة Foreign Affairs جايمس شايس أنه بغية تحقيق "الاستقرار في تشيلي العام 1973 ، كان من الضروري "زعزعة الاستقرار في البلد، من خلال إطاحة حكومة الرئيس سلفادور ألليندي وتثبيت ديكتاتورية الجنرال أغوستو بينوشيه، وكل ذلك في إطار تحقيق مصلحة الاستقرار والأمن. ويضيف تشومسكي: غالبًا ما يتبيّن أنّ الأمن للدولة يستوجب سيطرة مطلقة. وقد أعطى المؤرخ جون غاديس لـ جامعة يال، الموافقة العلمية على الفكرة الأساسية في كتابه " المفاجأة، الأمن والتجربة الأميركية" الذي يحقق في جذور عقيدة الحرب الوقائية التي اتبعها الرئيس جورج بوش الابن. وكان يقوم المبدأ المهم على أنّ التوسع هو "الطريق إلى الأمن"، وهو عقيدة يُرجعها غاديس إلى حوالي قرنين من الزمن، أي إلى عصر الرئيس جون كوينسي آدامز المثقف الذي ألف كتاب "القدر الجليّ" عندما حذّر بوش أنّه " أنّه على الأميركيين أن يكونوا حاضرين للعمل الوقائي عند الضرورة للدفاع عن حرّياتنا وحياتنا؛ علّق غاديس قائلاً: "إنّ بوش كان يردّد تقليداً قديماً بدل أن يخلق جديداً" مكرّراً المبادئ التي "فهمها الجميع... بشكل جيد جداً" بدءاً بالرئيس آدامز وصولاً إلى وورد ويلسون. في المُجمَل، تتعدّد الأمثلة والحقيقة واحدة: أنّ إغراءات الفخر والقوة ونزوعات الهيمنة والأطماع لدى بعض الدول محرّضات قوية للتدخّلات بعيداً عن الذرائع الواهية تحت شعارات الحريّة والعدالة وحقوق الإنسان وضمان الأمن والسلام العالميّين وكذلك احتواء المارقين على شعوبهم. والذين باعوا ضمائرهم وأنفسهم لأهوائهم ونزعاتهم الشيطانية وإغراء الشّر تحت مبررات واهية لا يسندها منطق ولا عقل؛ كلّ أولئك يثبت هزيمة العقل وطغيان الذهنية الاستعمارية وافتقار سلوكيّات أغلب تلك الدول لأيّ سند عقلي أو مبادئ أخلاقية سليمة.
مشاركة :