هل حقاً تبدأ الشرور الحقيقية كافة من البراءة؟! كيف يمكن للبراءة أن ترتبط بالقلق كهاجس مرعب، وهي التي اعتبرها أحد العظماء حظاً طيباً، لا فضيلة أو أخلاقاً حميدة! كل شيء يسير مع عقارب ساعة الرعب السينماتية، لا مع نظريات المؤرخين والفلاسفة والأدباء وبيولوجيي السلوك البشري وعلم الأخلاق، خاصة حين تفتح سجلات الأرقام القياسية لأفلام تنشر ثقافة الرعب، ضمن مكتبة سينمائية حافلة بأطفال من أعمار وأعراق مختلفة، مروا ببال التاريخ كنماذج مفزعة، ودخلوا في سباق مع الخوف، ليكرسوا رؤيويات سيناماتية من عوالم الخوف في مدن الأشباح وسلالات دراكولا وسكان القبور ومحضري الأرواح، ومبدعي القباحة، ليتاجروا بالملائكة في سوق المتعة والجمال! الرعب الافتراضي الذي تتم صناعته وإنتاجه في حقل الأفلام، يتعدى الخيال، ونطاق التطوير الإبداعي الخلاق طالما أنه يقلل حساسية الأطفال اتجاه العنف، ويحفز عندهم الشعور العدواني والإيهامي بتنمية قدرات وهمية اتجاه الخارق والمستحيل، حتى الموت يصبح مجرد قيمة تجارية للإمتاع والتسلية وليس قيمة واقعية مرهونة بمثل وطاقة عليا! العنف كشعار بطولي، لأطفال يتابعون شخصيات تمارسه كخلاص في عمليات الإنقاذ التدميرية، وهو ما حدا أحد الأطباء المختصين في هذا الشأن، ضمن أعداد المجلة الطبية البريطانية، لإفراد بحوث نفسية برهن فيها أن أفلام الكرتون قاتلة، لما تتركه من أثر عميق يحبط الأطفال، ويشعرهم بالعزلة والوحدة والتيه، ويربّي داخلهم نوازع وحشية، وصفات شاذة، ورغبات منحرفة، فما بالك حين يتعلق الأمر بالسحر والشعوذة؟ متحف السحرة! في معرض المكتبة الوطنية البريطانية/ لمقتنيات هاري بوتر، السلسلة السينمائية التي خرجت من رحم رواية ضخمة دخلت التاريخ من بوابة العالم السفلي للسحرة والمشعوذين، تم عرض عظام أحد سماسرة الأرواح الصينيين العائدة للقرن الثاني عشر قبل الميلاد، في أحد القاعات التي توزعت بين الكيمياء والفلك وأكاسير السحر والعلاج من قوى الشر، والمخلوقات السحرية !! المتحدثون باسم المعرض، صرحوا بأهميته لكونه ينشر ثقافة السحر ضمن نطاق ثقافي أكثر شمولاً من الرواية والسينما، فهل هناك ما هو أخطر من الخطر؟ حين يتحول الخيال الأدبي إلى استعراض سينمائي، ثم إلى عرض ثقافي، يتحرر من أدواته الفنية والتقنية، ليحرر بدوره الأسطورة من لاواقعيتها أو من سوابقها التاريخية الخارقة، فيوقعها ضمن طقوس متحفية وأثرية في متناول الأيدي، مثل المكانس السحرية والقدور والبلورات والحيوانات الخرافية، ما يعني أن العالم يتغلب على الخرافة بالخرافة، مادام العلم أصبح مسخراً بالكامل لِمَنْطقة اللامنطق، وتجاوزت المتطلبات التجارية حدها التسويقي، والتشويقي، إلى المراوحة بين الالتباس الذهني والاستلاب الثقافي الذي لا يخلو من «الإثقال السيمانطيقي»... خاصة حين يتم إدخال المتفرج إلى ساحة العرض ضمن شاشات متطورة، وطقوس سحرية تضم هيكل حورية قبض عليها في اليابان قبل قرنين من الزمان، وحجراً للفلاسفة عمره يصل إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وأثراً لأقدم وصفة سحر في التاريخ «أبراكادابرا» بلغتها اليونانية!! متلازمة الرعب إنها متلازمة الرعب التي أصبحت ماركة مسجلة في دنيا الملائكة الصغار، تماماً كما عبر أحد النقاد الإنجليز مرة: «أفلام الرعب والأطفال أصبحا متلازمين كالكوكيز والكريم، أو مثل Cheech & Chong الثنائي المرح الذي ذاع صيته في السبعينات والثمانينات، وكذلك الحال بالنسبة لزوج التحريات Freebie and the Bean إلى الحد الذي شبه فيه موسم العروض السينمائية بمعسكرات الصيف التي يؤمها الأطفال، دون إغفال صناعة حرف الوعي وتشويه المتعة التي ارتكزت إلى استخدام الدمى في السينما، كأحد أهم تقنيات الرعب، بعد الأطفال... فماذا بعد؟ خذ هذه القائمة التي تم نشرها عبر مواقع تؤرخ وتوثق لسينمائيات أطفال الرعب، لتحس بوقع الصدمة وهول الكارثة، ففيلم «الحلقة أو الطوق» الذي أنتج عام 2002، وكانت بطلته نعومي واتس، استند إلى ثيمة الأرواح مستعيناً بأبطال يحركون الأحداث الرئيسة للفيلم هم: الطفل «ديفيد دورفمان»، والطفلة «أمبير تامبلين» و«ديفيي تشاس»!! بينما جاء فيلم Hide and Seek 2005 لروبرت دينيرو والطفلة داكوتا فانينغ، ليتخذ من لعبة «الاستغماية» صيغة رعب، حتى كأن اللعب مع الخوف يحرف الحواس نحو الخوف من اللعب الذي يتحول إلى حادثة دموية، تشوبها طقوس مشبعة بالغرابة والكآبة والقتامة الثقيلة، والموسيقى المثيرة للأعصاب... أفكار رهيبة عن قرى لا تشرق فيها الشمس، شعبها مصاص دماء مثل «30 يوماً من الظلام 2007»، عداك عن التفكيك العاطفي والنفسي والاجتماعي بين أفراد العائلة الواحدة، والذي ينشر ثقافة التشكيك بأواصر الألفة والطمأنينة بين الأم وأبنائها أو الأبناء وأمهم، ويصور الأب كوحش مفترس يأكل عائلته، كلها أعراض ثقافة مشوهة، تستند إلى الإيهام التصويري الذي يشحذ صندوق الذاكرة بمتلازمة الرعب والطفولة، تماماً كما في الفيلم الياباني «الحقد 2002» أو الفيلم الإسباني «التسجيل 2007»، بالإضافة إلى الاتكاء على لعبة الحواس الخارقة التي تمكن الأطفال من التواصل مع قوى غيبية غامضة، تكشف لهم عذابات موتى مروا من هناك، وتوصلهم بهم، ثم أطفال يتم تبديلهم في غرف الولادة، أو جثث أطفال تقوم من مناماتها في مدن الظلام، لتشارك أحبتها المكان أو أسرتهم... بحضور مخيف، يجنحون معه إلى إيثار الغياب! الكينيغزمية طقوس مستوحاة من ملك الرعب ستيفن كينغ، ومخيلة خصبة ومرنة، وجاهزة لحبك قصص وحكايا، تفوق الاحتمال، فهناك «الحاسة السادسة» لبروس وولس 1999- الفيلم الإسباني «اليتيم» 2007، وفيلم «كابوس شارع إيلم» 1984، عن بستاني يعمل في روضة أطفال يخطفهم ويعذبهم، ثم يحضر في أحلام شباب الحي بعد موته بملابسه الرثة وقبعته الداكنة وقفازاته المسننة، ليقتلهم ويثير الرعب حياً وميتاً، أما الأفلام الأكثر غرائبية فهي تلك التي ارتكزت على البعد اللاعاطفي لأجيال باردة بلا انفعالات إنسانية، كأنها مخلوقات آلية، خارقة تحفز الآخرين على أداء مهام مدمرة خارجة عن إرادتهم، في فيلم «قرية الملعونين 1960».. وبغض النظر عن الترميز السياسي للحرب الباردة الذي مثله هذا الجين المشوه الذي يبدأ بغزو الأرحام نتيجة تأثيرات مفاعل نووي روسي، يظل السؤال قائماً: لماذا الأطفال؟ James Smythe كتب مرة في «الغارديان» عن الكينغزم «كمدرسة خاصة» بستيفن كنغ ملك الرعب وأسطورة الترهيب الإبداعي في عالم الروايات السينمائية، أو السينمات الروائية، عن السلالات الكامنة في الظلام التي تنتظر لحظة الانطلاق، في فيلم «حشد سالم»، كاختصار للكلمة، والذي يحيل إلى أرض مجازية أو خيالية يقال إنها في إحدى الولايات الأميركية، رغم إيحاءاتها التوراتية ومرموزاتها التاريخية ربما، خاصة وأنها تشكل جزءاً مهماً من طوبوغرافيا الخريطة الروائية للكينغزمية، والتي تمتد على مساحة روائية كبيرة، بحيث تحضر في أعماله الروائية الأخرى لتشكل أحد أعمدة الثالوث المركزي فيها. إنها مدن مصاصي الدماء، والمثليين المغتصبين، والنساء المعنفات، والأطفال الذين يتواردون خواطرياً مع الأشباح، كما في فيلم «البريق» 1980 الذي برع جاك نيكلسون بتقمص روحه الملعونة، علماً بأن فيلم «طارد الأرواح الشريرة» الذي أنتج عام 1973 عن فتاة ممسوسة، حصد أكبر ترشيحات من الأوسكار، واكتسح شباك تذاكر أفلام الرعب بمدخولات عالمية قاربت النصف مليار دولار، وقد تم تصوير أحداثه شمال العراق، في حضرة «تمثال بازوزو» الذي ذكر في سفر التكوين ضمن أساطير بلاد الرافدين وهو الشيطان الذي يركب الريح الساخنة التي تهب من الصحراء، ولك أن تتخيل مشاهد اللعنة والتشويق، وما توحي به الصحراء من غموض ورهبة.. يلعب العهد القديم لعبته بتخصيب النيجاتيف المخيالي لها... ويلاه! مكتبة الأشباح «ليلة الموتى الأحياء 1968»، فيلم سقط في بداياته، أو أوشك على السقوط، ولكن المفاجأة الكبرى هي اختيار مكتبة الكونغرس له فيما بعد لحفظه في سجلها الوطني للأفلام، تقديراً لأهميته الثقافية والتاريخية والجمالية، وهنا يأتي السؤال: ما الفارق أو ما هي الشعرة الفاصلة بين العبث وبين الإبداع؟ بين الخوف كثيمة جمالية، والرعب كسمة عصرية؟ بين تعود التيه والعدم وبين تأمله؟ الفيلم الذي صنف الأول عبر التاريخ كأكثر أفلام الرعب إثارة والتي كان أبطالها أطفالاً، هو فيلم 1976 الطالع، الماورائي، الذي يأخذك إلى ما وراء الطبيعة، حين يعلم بابا الفاتيكان بقدوم ابن الشيطان إلى الأرض، في الوقت ذاته الذي يموت فيه المولود الجديد لبطلة الفيلم، ومن دون علمها يستبدله الأب بطفل آخر، يجلب اللعنة لحياتهم، والذي أبدع فيه بطل العصور السينمائية، جريجوري بيك، فهل يبدو لك الرعب أنيقاً رغم ما يثيره من جلبة وفوضى في الحواس!؟ إنها سيميولوجيا الرعب التي تقبح البراءة وتغزو عالمنا السينمائي كالوباء الذي يحطم البنى العاطفية والعلاقات الاجتماعية السليمة، والخلايا العصبية بمفاهيم وتصورات من عوالم المجهول، والسحر الأسود، ضمن ميتافيزيقيات مرعبة، تستخدم الأطفال والدمى لصناعة سينمات شيطانية.. لمصاصي الدماء وشعب الأرواح وأبناء زومبي المجردين من الوعي الذاتي، والمسيرين بتعاليم «فودو»، فهل هذا ترفيه أم تشويه... ويلاه ثم ويلاه!
مشاركة :