د. محمد الصياد مع «الانفجار العظيم» لوسائط الميديا الذي سببته ثورة الاتصالات والمعلوماتية المتعاظمة، والتي لم توفر بقعة في كوكبنا إلا وطالتها، لم يعد بمقدور المرء تفادي «مقذوفات» هذه الوسائط، وهي تنهمر عليه ليل نهار، لا تترك له مجالاً للإفلات منها أو أخذ فسحة، ولو يسيرة، من الوقت لاستيعاب هجومها الضاري ومحاولة التكيف مع طبيعته؛ ومع غزارة «قذائفه» (المعلوماتية) المنهمرة دونما توقف، فإن في الوسع القول بشأن ما يجري هنا في عالمنا العربي، حيث نهرع، على جري العادة، لاستنساخ ما يصدر في «الضفة الأخرى» من العالم، من «موضات ابتكارية» في مناحي الحياة كافة، المادية والروحية، إن الوضع، فيما يتعلق بهذا الموضوع تحديداً، لا يختلف لدينا كثيراً عنه في بقية أنحاء المعمورة، إنما في الشكل، والشكل فقط. فالاختلاف في المضمون كبير، وواسع، وعميق، بحجم كبر وسعة وعمق الفجوة الفاصلة بين الضفتين، في الإنتاجين المادي والروحي، والإنتاج المعرفي المُعدّ للتحويل لإنتاج مادي. ذلك لأن استنساخ الشكل أسهل بكثير من محاولة «نقل تكنولوجيا» المضمون، لأن هذا الأخير غير قابل للنقل ما لم تكن له حاضنة قابلة لتوطينه. من أوجه عمليات الاستنساخ المبتكرة لدينا ها هنا في العالم العربي، ذات الصلة بموضوع «الانفجار العظيم» إياه، لوسائط الميديا والمعلوماتية، تزاحم محطات البث الفضائي التلفزيوني والإذاعي على إغراق معشر المشاهدين والمستمعين، بوابل من «التحليلات» التي يدلي بها «محللون»، أو استراتيجيون، أو اختصاصيون، أو ما شابه ذلك من مسميات تخلعها عليهم هذه المحطات حين تقديمها إياهم. وإمعاناً في التشويق والإغراء، فإن بعض محطات البث الإذاعي الأجنبية الناطقة بالعربية، تقدّم بعض هؤلاء (المحللين والاستراتيجيين والاختصاصيين..الخ) بمسميات وظيفية غير مطابقة لحقيقة أوضاعهم الوظيفية، سواء بسبب مغادرتهم لوظائفهم أو تقلّدهم لها بصورة عابرة ومؤقتة. ولا يحتاج المرء المتابع لكثير عناء كي يستوثق من هذا الأمر، إذ يتكفل «الخبير» بإثبات الحالة من خلال تهويماته وضحالة معلوماته التي لا تنم عن تقلّده لذلكم المنصب القريب من دوائر صناعة القرار الذي يقدّم على أساسه للمستمعين. على أن الأمر الأكثر أهمية وجدارة بالإثارة والإشارة والتنويه، هو ذلك المتعلق بالخلط الواقع بين التقرير والتحليل. فالكثيرون ممن تقدّمهم قنوات البث التلفزيوني والإذاعي على أنهم محللون متخصصون، ما هم في الواقع، أو لنقل معظمهم، سوى معلِّقين تقريريين، يعيدون سرد وتكرار ما صار ذائعاً ومعروفاً، بعدما أسهبت وكالات الأنباء في تداوله. فهم إنما يقومون بتقرير ما صار خبراً معلوماً وذائعاً، فيكون بهذا المعنى أقرب إلى التقرير والتعليق منه إلى التحليل. وهنالك فرق واضح ما بين التقرير والتحليل. ليس هذا وحسب، إنما حين الانتقال من التقرير إلى التعليق على الخبر أو الحدث، تتم قولبته رغائبياً، بما يتسق مع توجهات المحطة و«الولاءات» الذاتية الخاصة ب«قارئه»، حتى أن المشاهد أو المستمع يدرك أن كثيراً مما يقوله هؤلاء التقريريون والمعلّقون، هم أنفسهم غير مقتنعين به.في الترافع أمام القضاء، يبدأ محامي المدعي أولاً بعرض وقائع الدعوى المرفوعة، والتي هي بمثابة تقرير مفصّل عن وقائع الدعوى، ومن بعد ينتقل للجزئية الأهم (بالنسبة لقضاة المحكمة)، وهي المتعلقة بالربط ما بين الوقائع وما بين الأسانيد القانونية والمادية الأخرى، والتي تكون بمثابة تحليل لوقائع الدعوى.والحال أن الكلام في السياسة صار مثل العملة الرديئة التي تطرد العملة الجيدة من التداول (بحسب قانون السير توماس جريشام مستشار ملكة إنجلترا 1519-1579). في قانون جريشام يميل الناس إلى الاحتفاظ بالنقود المسكوكة حديثاً واستخدام النقود العتيقة (من نفس العملة) لسداد مدفوعاتهم، ما دامت قيمتهما واحدة.في السياسة أيضاً، سوف لن يعثر المرء المتابع على «العملة الجيدة»، مهما قلب قنوات بث الأخبار و«تحليلها»، فليس لها مكان في مجمل مساحات التغطيات السياسية، المتنوعة بتنوع البرامج التي تطرقها، على ما هو ظاهر وشاهر من تلك الاستضافات «التحليلية» الإخبارية، الانتقائية، النخبوية، ذات اللون الواحد، المائل والجانح أكثر نحو الصومعة الكيدية والنزعة الرغائبية.حتى أنه من كثرة استسهال ركوب مغامرة الحديث في السياسة وسيولة استخدامها، أن بعض محطات البث الإذاعي تستدرج آراء بعض مستمعيها المتفقة معهم سلفاً، للإدلاء بدلوهم في قضايا عديدة مختلفة ليس لها أول ولا آخر.alsayyadm@yahoo.com
مشاركة :