مضى الآن عامان على تنصيب دونالد ترامب، الرئيس الأكثر جدلاً في تاريخ أمريكا الحديث، وعلى الصعيدين الداخلي والخارجي، ذهب الرئيس الجمهوري لإحداث تغيير جذري في الثوابت السياسية الأمريكية، وإدخال أطر سياسية راديكالية، بالإضافة إلى التورط في فضائح لا حصر لها. من هنا، يجدر بنا أن نبحث في آثار وصول ترامب إلى البيت الأبيض على سجل السياسة الخارجية لإدارته، والتي خلقت حالة من الجدل بشأن مكانة أمريكا في العالم ومستقبلها كقوة عظمى. وفي هذا المقال، نتطرق إلى عقيدته القومية والانعزالية التي أعلنها أثناء حملته الانتخابية عام 2016. بالإضافة إلى تحليل تنفيذه لسياسة «أمريكا أولاً»، وأيضًا سياسته الخارجية التي تقع خارج نطاق هذا النهج، خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط، وكيف ستكون في السنتين المتبقيتين له في المنصب. لقد بنى ترامب سياسته الخارجية على فكرة «أمريكا أولاً»، تلك العقيدة التي تسعى إلى تحديد مشاركة أمريكا مع المجتمع الدولي على أساس خدمة المصالح الاقتصادية والدفاعية والسياسية الأمريكية، ويقول وليام ديفيدسون، زميل معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في مقال له بصحيفة «وول ستريت جورنال»: «إن ترامب هو داعية حرب القرن الحادي والعشرين»، بالنظر إلى أسلافه من هؤلاء السياسيين الذين قادوا أمريكا إلى الانسحاب من الشؤون العالمية بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. ويدعم هذا المفهوم نظرية أن الولايات المتحدة يجب أن تتصرف من جانب واحد على المسرح العالمي، ما يسمح لها بممارسة سياسة خارجية براجماتية. ويوضح ديفيدسون أن آيديولوجية ترامب، تنظر إلى المؤسسات الدولية وأنظمة التحالف متعددة الأطراف على أنها «مُقيدة للغاية، وتفرض التزامات باهظة وتحد من حرية العمل الأمريكية». وفي خطوة تُبين حجم اتجاهاته الحمائية، فرض ترامب رسومًا جمركية على السلع الصينية بقيمة إجمالية تبلغ نحو 250 مليار دولار، مع رسوم على الواردات تتراوح بين 10% و25%، ردًّا على ما يراه هو «سنوات من التجارة غير المتكافئة مع بكين». وفي المقابل، فرضت الصين رسوما مشابهة على منتجات وواردات أمريكية بقيمة 110 مليارات دولار، ما يُنهي سنوات من العلاقات الاقتصادية الأكثر تحررًا بين أكبر اقتصاديين في العالم. كما أصبح الاقتصاد الحمائي ما يميز علاقات ترامب مع كل من الحلفاء والخصوم على السواء، حيث يتم التفاوض على أنظمة جديدة للتعريفات الجمركية مع كل من أستراليا وكندا، وكذلك الاتحاد الأوروبي، الذي هاجمه ترامب مرارًا، وقال إنه تم إنشاؤه «لينافس الولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بجني الأموال»، كما أن الاتحاد الآن «بالأساس، بات أداة في يد ألمانيا» لاستغلال التجارة مع الولايات المتحدة. وإلى جانب التجارة، امتد كره ترامب للتحالفات ليشمل كذلك حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث يتعامل ترامب مع الحلف بطريقة مماثلة للتي ينظر بها إلى الاتحاد الأوروبي، كمؤسسة أنشئت لاستغلال الثراء المالي وموارد الولايات المتحدة. كما يهاجم بانتظام الحلفاء الأوروبيين لفشلهم في تخصيص 2% من ميزانيتهم على الدفاع، على النحو المنصوص عليه في اتفاقية حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن الحاجة إلى الإسهام بموارد لنشر القوات الأمريكية في أوروبا. وينتاب العديد من المحللين القلق من تنفيذ ترامب تهديداته يومًا ما بالانسحاب من الحلف؛ فقد أدت إدانات ترامب للمعاهدات والمنظمات العالمية على مدار العامين الماضيين إلى مغادرة أمريكا عددًا من المؤسسات الراسخة. يقول تيد جالين كاربنتر، زميل بارز في دراسات الدفاع والسياسة الخارجية في معهد كاتو: «لقد أظهر ترامب القليل من الصبر إزاء الاتفاقيات المُتعددة الأطراف، مثل اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادئ لتحرير التجارة، أو اتفاق باريس بشأن المناخ، أو مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة»، والتي انسحب منها جميعًا، والتي رأى فيها أنها لا تخدم مصالح أمريكا الوطنية. ولا يخفى أن ترامب وقع في تناقضات كبيرة، فيما يتعلق بعقيدة سياسته الخارجية، وما يأتي به من أفعال؛ وقد ظهر ذلك في أدائه غير الحازم تجاه روسيا، وهي عدو واشنطن التقليدي التي تسعى بدأب إلى تحدي نفوذ الولايات المتحدة في الخارج، فتواطؤ ترامب الظاهر مع بوتين، كما يتضح من دفاعه عنه في قمة هلسنكي الثنائية بينهما عام 2018؛ يقوِّض من التزامه بتأييد وممارسة السيادة الأمريكية كجزء من أجندته «أمريكا أولاً»، وذلك بالنظر إلى الأدلة على نشر موسكو العديد من المعلومات المضللة، وحملات الهجوم السيبراني ضد الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، فضلا عن تقويضها للأهداف الأمريكية في جميع أنحاء العالم، مثل مواصلة أتون الحرب في أوكرانيا، ودعم إيران، وزعزعة استقرار حلفائها الأوروبيين. ويبدو جليًّا التناقض بين كلمات وأفعال ترامب بشأن استمرار الإدارة على النهج الأمريكي الخارجي القائم على نشر قواتها عبر العالم. ولعل المثال الأكثر وضوحًا هو أفغانستان، التي وصفها ترامب تاريخيًّا بأنها منطقة حرب، ولفت إلى إمكانية سحب القوات الأمريكية منها. لكنه أعلن في أواخر 2017 عن نيته نشر 3000 فرد إضافيين في أفغانستان، من أجل تعزيز جهود مكافحة الإرهاب. كما قام بنشر أفراد، مدنيين وعسكريين؛ لدعم عمليات الناتو في أوروبا الشرقية. وإلى جانب نشره قوات على الأرض، حافظ ترامب أيضًا على عمليات مكافحة الإرهاب عبر الشرق الأوسط وإفريقيا، والتي كان العديد منها مبادرات في عهد سلفه أوباما، مثل حملات القصف في الصومال وليبيا واليمن، إلى جانب مواصلة تخصيص الموارد للقوات في وسط وغرب إفريقيا، وخاصة في تشاد. وفيما يتعلق بملفي الشؤون الدبلوماسية والدفاعية، أثبت ترامب خلال العامين الماضيين استعداده لتبني أهداف السياسة الخارجية؛ فقد التقى مع الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون في سنغافورة في 12 يونيو 2018. وخلال الاجتماع، تم الاتفاق على عدد من المبادرات الواعدة والغامضة، وتقلصت حدة التوترات منذ ذلك الحين. وأشارت صحيفة «الإ يكونوميست» بعد فترة وجيزة من انعقاد الاجتماع إلى أن «الحوار الذي تم مع كيم يكمن بداخله أمل في إحراز المزيد من التقدم الجوهري»، واعتبر الكثيرون أن ما أثمر عنه الاجتماع يمثل نجاحًا نادرًا للإدارة الأمريكية، وهذا في إشارة إلى «تدمير بيونج يانج لموقع نووي، وإطلاق سراح ثلاثة سجناء أمريكيين، والاستعداد - الشفوي فقط - للمضي قُدُمًا نحو نزع السلاح النووي»، وهنا يوضح ديميتري سيمز، خبير روسي ورئيس مركز المصلحة الوطنية في واشنطن، قائلاً: «تلك التطورات توحي بأنه قد يكون هناك المزيد من الفرص السانحة والواعدة التي كانت غير الموجودة في «نهاية فترة ولاية أوباما». وربما تكون هناك نقطة أكثر أهمية من مبادرة كوريا الشمالية، وهو نهج ترامب الذي يتسم بالحيوية تجاه الشرق الأوسط. فلقد كان تركيز ترامب في تحقيق الأهداف الأمريكية المحورية على منطقة الشرق الأوسط. وتتمثل تلك الأهداف في «ثلاثة مكونات أساسية»، بحسب ما يذكر ستيفن كوك زميل أقدم في زمالة «إيني أنريكو ماتي» لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا في «مجلس العلاقات الخارجية»، في تقرير له بمجلة فورين بوليسي الأمريكية، وهي: «محاربة الإرهاب، واحتواء إيران، ودعم إسرائيل». ومما لا شك فيه أن أهم مكون هنا محاولات ترامب احتواء إيران ومحاولاتها المستمرة تكثيف نفوذها الإقليمي، من خلال الاستفادة من الصراعات الجارية، وخلق حالة من الانقسام بين مجموعة من القوى التي تعمل بالوكالة، وبين الدول التي توجد على أرضها تلك القوى. ففي الثامن من مايو عام 2018 أعلنت الإدارة الأمريكية انسحابها من اتفاق 2015 حول البرنامج النووي الإيراني، وإعادة فرض العقوبات على عدد من القطاعات والصناعات الإيرانية الرئيسية، بما في ذلك بناء السفن وقطاعي الطاقة والمالية. واستنادًا إلى ممارسة مزيد الضغوط المالية والسياسية على طهران من أجل تغيير سياستها الإقليمية، شرع ترامب أيضًا في مزيد من التقارب مع العديد من دول الخليج العربية، وخصوصًا خصوم الجمهورية الإسلامية مثل السعودية والبحرين. وقد شمل ذلك تعميق العلاقات العسكرية والسياسية والاقتصادية في أعقاب حالة التراجع التي كانت إبان فترة ولاية أوباما. وهناك عنصر آخر رئيسي في سياسة ترامب تجاه الشرق الأوسط وربما يكون العنصر الأكثر إثارة للجدل، وهو تعميق الروابط مع إسرائيل. وفي هذا السياق، يوضح الدكتور «جاك طومسون»، المتخصص في شؤون الأمن العالمي بمركز الدراسات الأمنية في زيوريخ، في تقرير حديث له، قائلاً: «جميع الإدارات الأمريكية السابقة كانت تعامل إسرائيل كحليف مقرب فحسب، بينما ذهب ترامب إلى مدى غير مسبوق لإرضاء نتنياهو». نعم تلك الرغبة الجارفة نحو إرضاء الحكومة الإسرائيلية بأي شكل من الأشكال قادت ترامب ذاته إلى تنفيذه أكثر مبادراته المثيرة للجدل بالشرق الأوسط، وهي الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إلى هناك. ولا يخفى أن هناك عنصرًا آخر جوهريًّا في ملف سياسة ترامب الخارجية تجاه الشرق الأوسط حتى الآن وهو الجهود الرامية إلى القضاء على الإرهاب، مع التركيز بشكل هائل على مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). نخلص مما سبق، أن ترامب، تخلى عن التزامات واشنطن الدولية على نطاق لا يضاهي أي رئيس حديث، بصرف النظر عن بعض الاستثناءات؛ فلقد تخلى عن مكانة الولايات التي كانت تحتلها سابقًا، باعتبارها بطلاً للتجارة الدولية منخفضة التعريفة، عبر إثارة حرب تجارية مع الصين، كما هاجم حلفاء اعتبرهم يستنزفون الموارد الأمريكية، مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وأشرف على انسحاب واشنطن من مؤسسات دولية. ومن ناحية أخرى، كان نشطًا دبلوماسيًّا، حيث عمل على فرض القليل من الرسوم على دافعي الضرائب الأمريكيين، كما سعى إلى بناء تحالفات واسعة في الشرق الأوسط، مع دول الخليج العربية وإسرائيل، أو حتى عقد مؤتمرات قمة مع قادة مناوئين، مثل بوتين أو كيم. على العموم، يبدو من غير المحتمل أن يتغير اتجاه ترامب أو سلوكه فيما يتعلق بالسياسة الخارجية بالنسبة إلى السنتين المقبلتين؛ فالذين كانوا يتحدون سياسته، مثل جيمس ماتيس، وجون كيلي، وإتش آر ماكماستر، وغاري كوهن، وريكس تيلرسون، تركوا فريقه المعني برسم ملامح السياسة الخارجية، وحل محلهم أشخاص يؤيدون فكره، مثل جون بولتون ومايك بومبيو، ويبدو أن ترامب سيصبح أكثر حرية في تنفيذ مذهبه «أمريكا أولاً» من دون ردع. وذكر مجلس العلاقات الخارجية الأوروبية على لسان كل من «مارك ليونارد» و«جيرمي شابيرو»، أن «هذا العام يشهد انتقال سلطة إدارة ملف سياسته الخارجية إلى شخص وحيد أظهر له ولاءً ثابتًا ولديه ثقة كاملة فيه، وهو نفسه «ترامب». ومن ثم ينبغي للعالم أن يستعد لمزيد من التغييرات التحويلية من الآن وحتى عام 2020. مثلما حدث منذ تنصيب ترامب في عام 2017.
مشاركة :