دار ذات يوم نقاش مفتوح في واحد من المجالس التي أرتادها، وكان النقاش يدور حول (الطفل العنيد والعصبي)، وهذا المجلس يحوي عادة العديد من أساتذة المدارس والجامعات والمتخصصين في التربية وعلم النفس كما يحوي جمعا كبيرا من المختصين وغير المختصين، وعادة يتم اختيار موضوع يتم تداوله وطرحه للنقاش، فيدلي كل من يرغب بدلوه، كما يقال. قال أحد المعلمين الأفاضل المتقاعدين: دعوني أبدأ بهذه الحكاية كما جرت أمامي ذات يوم، جاءني ذات يوم معلم وقال إن فلان وهو طالب مستجد ومنقول من مدرسة أخرى مزعج وشديد العناد، ولا يقوم بحل واجباته ودائمًا يسبب المشاكل داخل الفصل مع زملائه ويضربهم ويسرق أدواتهم، وواصل المعلم: وأنا في الحقيقة لا أعرف كيف أتعامل معه لذلك أرجو نقله إلى صف آخر ربما يستطيع المعلم –فلان- أن يتعامل معه. يواصل المعلم المتقاعد ويقول: طبعًا عملية النقل ليست هي الحل الأمثل، إذ إن هذا السلوك سينتقل مع الطالب أينما رحل، لذلك قمنا بالاتصال بولي أمر الطالب ومن المفروض أن يكون الأب. وعندما تم الاتصال به صرخ الأب في وجه المشرف الاجتماعي قائلاً: إنه ليس المسؤول عن هذا السلوك الأرعن، بل بسبب أمه، اتصلوا بالأم، وأغلق الخط. فاتصل المشرف الاجتماعي بالأم التي بكت أشد البكاء عبر التلفون، وأخيرا وافقت على الحضور. وفي اليوم التالي جاءت الأم، فاستدعاني مدير المدرسة والزميل المعلم مدرس الطفل وشكّلنا لجنة مصغرة مع المشرف الاجتماعي لنستطلع حكاية الطفل العنيد، وكان الحوار في البداية بيننا وبين الأم من جانب واحد، فقد كانت تحاول جعلنا نتحدث نحن وهي فقط تستمع وذلك هروبا من المواجهة وتبيان الحقيقة، ولكننا فهمنا طريقتها في الهروب والحوار الذي حاولت توجيهه، فبدأنا في طرح الأسئلة البسيطة في البداية وكان من الواضح أنها تتهرب من الإجابة، فهي تعرف الحقيقة ولكنها لا تريد أن تقولها، ومن جانبنا كنا نحاول أن نعرف أو كان هدفنا أن نعرف الأسباب التي تجعل هذا الطفل يسلك هذا السلوك العنيد. وعندما طال الحديث، وكان الهروب واضحًا من لدن الأم بدأنا نحاصرها بالأسئلة، حتى انهارت -تقريبًا- فسكتت ثم بكت، وأخيرا رفعت رأسها وقالت: إن الطفل يقلد أباه، فالأب عنيد إلى آخر درجة، ولا يتورع عن ضرب أي شخص في المنزل حتى أنا، حتى أنه يضربني بأي شيء في يده سيجاره كانت أو سكينا أو حتى بالريموت كنترول ومن غير عقل، وللأسف يقوم بذلك أمام الأطفال ومن غير أن يراعي أثر ذلك عليهم. وهو بعيد عن الأطفال ولا يهتم بهم ولا بسلوكياتهم أو مدارسهم، ولا يهتم حتى بمصروفهم ومتطلباتهم، فهو يعيش حياته الخاصة مع أصدقائه ويسهر إلى ساعات متأخرة من الليل ولا نعرف إلى أين يذهب ومتى يعود إلى المنزل. أحاول أنا أن أقوم بدور الأم والأب ولكن هذا صعب جدًا أمام ثلاثة من الأولاد وبنت، أحاول بكل ما أستطيع ولكن عادة أفشل وتذهب جهودي أدراج الرياح. وتحدثت، واستمرت في الحديث حتى تقطعت قلوبنا من هذا الحديث المؤسف. وفي الأخير قالت: سوف أحاول نقله إلى مدرسة أخرى إن كنتم لا تستطيعون استيعابه. فقال المشرف الاجتماعي: لا بأس سوف نتصل بك بعد دراسة حالته، فلا تخافي وإن شاء الله سوف يتحسن الوضع، لا تخافي. غادرت، ثم جلسنا مع مدير المدرسة فلخص له المشرف الاجتماعي الموضوع والطالب والأسرة والمشكلة، ثم قال: أعطني يومين لأضع لكم بعض الحلول التي أعتقد أنها سوف تخفف من حدة المشكلة، ولكن قبل ذلك أريد الجلوس مع الطالب نفسه. قال المشرف الاجتماعي بعد أن جاء بعد يومين كما وعد: جلست مع الطالب ومن الواضح أن الطالب يعاني أشد المعاناة من والده، فهو أكبر أخوته، لذلك فهو يشاهد ويرى كل ما يجري أمامه، ويبطن كل ذلك في عقله الباطن، ويخزن كل تلك السلوكيات من غير أن يشعر، وعلى الرغم من كرهه لوالده لأنه يضرب أمه باستمرار وليس موجودًا في حياته اليومية كسائر الآباء، وكذلك يسلك الكثير من السلوكيات غير المرغوبة والتي يجدها الطفل نفسه أنها سلوكيات غير صحيحة، فإن عقله الباطن يعتقد أن هذا هو السلوك الأفضل للتعامل مع الناس، وإن كان في ذاته لا يقره ولا يرغب في تقليد والده، فهذا الطفل مشتت ويحاول أن ينتقم من نفسه ومن والده بالعناد والعصبية وكذلك بضرب الناس وخلق عداوات وإبراز كل تلك السلوكيات التي لا يقرها المجتمع. ثم أردف وقال: إن هذا الطفل ضحية من ضحايا أخطاء الآباء، ويحتاج إلى علاج نفسي واجتماعي، ولكن قبل ذلك يجب إحضار الأب بأي طريقة كانت حتى ولو بتدخل الشرطة. وبعد يومين تم استدعاء الأب في مركز الشرطة، وذلك حتى لا يدخل المدرسة مع الشرطة خوفًا من أن يراه الطفل وزملاؤه، فبدلاً من حل المشكلة فإنه يمكن أن تتزايد وتتفاقم. جلس معه المشرف الاجتماعي، مدة ساعتين، وقال المشرف الاجتماعي: جلست معه وتحدثت وقلت أشياء وأمورا كثيرة، وأخذ يصرخ ويسب ويشتم، وكان يردد: ليس لكم علاقة بالموضوع، أنا حر أفعل ما أشاء. وتدخل الضابط المناوب الذي فهم الموضوع بصورة جيدة، وقال بصوت حازم: إذن نحول الأمر إلى النيابة للتحقيق في الموضوع، وإن ثبت ذلك فعلاً فما لك إلا السجن. وهنا سقطت كل قوى المقاومة المزيفة التي كان يوهمنا الأب أنه يتحلى بها، وانتهت لعبة الثقة، فأسقط في أمره، وبعد ذلك – كما يقول المشرف الاجتماعي – جعلته يوقع على تعهد أحضرته معي وجهزته ويتلخص في أنه لا يضرب الأم أو أحدا من الأبناء، وإن تكرر منه ذلك فإنه سوف يسجن، وتم توقيع التعهد أمام الضابط. ثم قال: هذا فيما يخص الأب، أما المدرسة فإني أقترح عدة أمور يجب القيام بها، مثل: 1- إشراك الطفل في الأنشطة سواء الرياضية أو غيرها، فمثل هذه الأنشطة تعزز السلوك الإيجابي لديه وتقلل من حدة الغضب والعناد، فإنها سوف تمتص جزءا كبيرا من الطاقات السلبية والنشاط الزائد اللذين يستخدمهما بصورة سلبية. والمشاركة في الأنشطة الجماعية ككرة القدم أو غير ذلك من الأنشطة الجماعية التي تنمي لديه قدرته على التواصل وروح الفريق والتعاون، وهذا بحد ذاته إيجابية إن أتقنها وشعرها فإنه سيتحول من السلبية إلى الإيجابية. 2- تعزيز السلوك السلمي لدى الطالب، فيجب أن يكافأ هو وزملاؤه وليس هو فقط، إذا ضبط هو أو أحد من زملائه متلبسًا بسلوك هادئ فيمكن أن نقدم لهم هدية أو نعمل لوحة شرف في المدرسة لنضع أسماء الطلاب ذوي السيرة الحسنة، كما يفعلون في المؤسسات التي تضع موظف الشهر في لوحة الشرف، أو أن نقول لهم وخاصة في حصص النشاط «إذا اتسم عملكم طوال الوقت بالهدوء والتعاون ومن دون صراخ أو شجار فسوف أعطي كل واحد منكم درجة»، أو ما شابه ذلك، المهم مكافأة إيجابية. 3- التواصل الإيجابي مع الطفل، فلا يكفي أن نتواصل ونتحدث مع الطالب أو الطفل، بل يجب أن يكون تواصلنا إيجابيا، بمعنى أن نفهم ما يريد وأن نضع سلوكنا معه في ميزان حساس، ففي بعض الأحيان يمكن أن نتجاهل بعض سلوكياته الشائنة، وفي أحيان أخرى نعاقبه على بعض السلوكيات ذات التأثير على سلوكيات الآخرين، على أن نفهمه ونحاوره في الأسباب التي دعتنا إلى أن نتجاهل سلوكه في الأولى وأن نعاقبه في الثانية، كما يجب ألا نوبخه أو أن نزجره أو نعاقبه أو حتى ننصحه أمام الآخرين، بل يجب أن نتعامل مع كل هذه الأمور بعقلانية وهدوء وخاصة في المراحل الأولى، حتى يستقيم ويتفهم الوضع. 4- نفصله عن الأصدقاء الذين يماشيهم بصورة يومية، إذ ربما ينقلون إليه العدوانية وكراهية الآخرين، ونحاول أن نغير من أصدقائه والفريق الذي يعيش معه سواء في المدرسة أو الحارة، إذ إن الولد على استعداد لاكتساب أي سلوك شائن. 5- تنمية روح التسامح لدى الطفل، وذلك بأن نطلب منه دائمًا – وخاصة إن آذى أحدا من زملائه – أن يضع نفسه مكان الآخر، أو ربما يمكننا أن نساعده في تربية بعض الحيوانات الأليفة ولكن ليس الكلاب، فمن يربي الكلاب يعتقد أنه قوي ويمكنه من خلالها أن يضر بالآخرين، فيمكنه أن يربي قطة أو أرنبا أو أنواعا معينة من الطيور، فيطعمها ويعتني بها ويحاول تربيتها ويراقب نموها. 6- يجب أن ندربه ونعلمه التعبير عن احتياجاته ورغباته وألا يكتم ما يريد، وأن نحاول أن نحقق له ما يمكن من تلك الرغبات والاحتياجات، وإن لم نتمكن أن نحقق له ما يريد فيجب أن يعلم لماذا لا نستطيع، سواء كانت عدم قدرتها آتية من الجوانب الإيجابية أو السلبية. 7- تنبيهه إن أساء الأدب مع أحد معلميه أو أقرانه، فيجب أن يتعلم الأدب والاحترام، ويجب أن يشعر بالحب وحنان الأم والمعلمين. 8- تنمية مهاراته وقدراته وجوانب الذكاء لديه، وهذه ضرورة فيجب أن يتم اختبار الطفل وأن ندرس قدراته ومهاراته، فربما كان موهوبًا في جانب من الجوانب العلمية والتعليمية أو حتى الفنية فيجب أن يوجه لتنمية تلك الجوانب وصقل قدراته وإبداعاته سواء من خلال المدرسة أو من خلال المراكز الشبابية الأخرى، فإن ذلك سيخفف كثيرًا من حدة الغضب المكبوت في نفسه. ثم يواصل المعلم راوي القصة: هذه بعض الجوانب التي تحدثنا بها وعنها، وبالفعل قمنا بالاجتماع مع معلم الفصل وبقية المعلمين، ليس من أجل الطفل فقط بل من أجل جميع الطلاب. وبالفعل قمنا جميعًا كفريق واحد بالعمل على تحسين علاقتنا مع جميع الطلاب وهو واحد منهم، واستطعنا خلال سنة واحدة أن نغير سلوكيات بضع أعداد من تلك النوعية من الطلاب العنيدين والرافضين لكل شيء في المجتمع، وها هو اليوم ذلك الطالب العنيد العصبي يعمل مديرًا تنفيذيا في واحدة من كبرى المؤسسات في البلاد، والله إني استمتع كثيرًا وأشعر بالفخر أني كنت ذات يوم معلما من المعلمين الذين تمكنوا من إنقاذ مثل هذا الولد الذي كاد يغرق في بحر العناد والعصبية. وقبل أن أختم هذا المقال أود أن أذكر هذه الحكاية التاريخية، إذ يروى أن الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان غاضبًا ذات يوم من ابنه اليزيد لبعض مشاكل الطفولة، فدخل عليه في ديوانه الأحنف بن قيس فسأله معاوية عن الولد، فقال الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول عند كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فارضهم، يمنحوك ودهم، ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم قفلاً فيتمنّوا موتك ويكرهوا قربك ويملوا حياتك. فقال له معاوية رضي الله عنه: لله أنت، لقد دخلت عليّ وإني لمملوء غيظًا على يزيد ولقد أصلحت من قلبي له ما كان فسد. بهذه العقلية نريد أن نكون في تعاملنا مع أبنائنا، وأن تكون نظرتنا إليهم نظرة إيجابية، وأن نغدق عليهم من عطفنا وحبنا، بدلاً من الصراخ في وجوههم، وإعلان الثورة عليهم لأتفه الأسباب، حتى لا يكتسبوا منا سلوكًا غير مرغوب فيه. فلقد ثبت علميا أن الطفل يتأثر بما يحيط به من الحنو أو القسوة تأثرًا عميقًا يصاحبه بقية حياته وعمره ويشمل نواحيه الصحية والنفسية، وكما هو معلوم لدى علماء التربية أن الطفل يولد وليس لديه سلوك مكتسب، بل يعتمد على أسرته في اكتساب سلوكياته، وتنمية شخصيته؛ لأن الأسرة هي الحاضن التربوي الأول التي ترعى البذرة الإنسانية منذ ولادتها، ومنها يكتسب الكثير من الخبرات والمعلومات، والمهارات، والسلوكيات والقدرات التي تؤثر في نموه النفسي - إيجابًا وسلبًا - وهي التي تشكل شخصيته بعد ذلك. وكما قال الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».
مشاركة :