إعداد: محمد هاني عطوي اكتشاف أنواع حية تنتمي لفصائل جديدة أمر لا يحدث كل يوم عند الباحثين، لكن في 2017 كان عام الحظ عند هؤلاء، حتى إنه يمكن القول إن الحصاد كان ممتازاً.وفي مختبرات المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي MNHN بباريس باحثون عاكفون على المجاهر يرقبون هذه الكائنات بدهشة، يدعمهم زملاء متطوعون، ومتقاعدون، وأساتذة في علوم الحياة والأرض، جاؤوا لقضاء إجازاتهم بغية تقديم المساعدة. الطاولات تمتلئ بأنابيب الكحول المملوءة بدورها بالرخويات والحشرات التي جلبت للتو من غاباتها الأصلية في كاليدونيا الجديدة، تلك الجزيرة الاستوائية الجبلية التي كانت مغمورة ثم خرجت من قاع البحر قبل 37 مليون سنة. والجزيرة هي موطن للتنوع البيولوجي الاستثنائي، إذ إن 75% من الأنواع الحيوانية المستوطنة فيها لا تعيش في أي مكان آخر.لا شك في أن هذه النسبة تمثل رقماً قياسياً حيث تم جمع ما لا يقل عن 50 ألف نوع منذ أغسطس/ آب 2016، واحتاج ذلك إلى القيام بحركات بهلوانية من الباحثين. والمخاطر كبيرة وتستحق ذلك، فلا شيء أقل من محاولة تحديد جميع الأنواع التي لا يزال يتعين عليهم اكتشافها.وبالتزامن مع أعمال خبير النبات أوليفييه باسكال من المنظمة غير الحكومية Pro-Natura International وضع خبير الحيوان فيليب بوشيه، المتخصص بطنيات الأرجل، في العام 2006 برنامجاً واعداً يسمى «إعادة استكشاف الكوكب» يجمع ألف باحث بميزانية تتجاوز عشرة ملايين يورو.هدف المشروع تمشيط المناطق النائية في العالم بحثاً عن الأنواع التي لا تزال مجهولة. وبعد جمهورية فانواتو (2006) وموزمبيق ومدغشقر (2009-2010) وبابوا غينيا الجديدة (2012-2014) وغويانا الفرنسية (2014-2015)، جاء الدور على كاليدونيا.يقول بوشيه: «نعرف اليوم نحو مليوني نوع حيواني، ومن المعتقد أن هناك في المجمل ما بين 6- 10 ملايين، 90% منها من اللا فقاريات (الحشرات والقشريات والرخويات).وأضاف: «هذه الحيوانات الصغيرة لا تلقى اهتماماً كبيراً من العالم، بما في ذلك المجتمع العلمي، لأن لديه ميلاً لما يلمع فقط، وما هو كبير، أو ما يحدث الضوضاء. ولذا نجد أن الأسماك والطيور، خاصة الثدييات، هي مواضيع أبسط للدراسة، وتمنح المكافآت أكثر من أجلها وعلى العكس، نجد أن النمسيات Ichneumonidae وهي دبابير طفيلية من الحشرات غشائية الأجنحة، وتعرف بهذا الاسم نسبة للنمس عند الأقدمين لأنها تتلف صغار الحشرات كما يتلف النمس المصري بيض الزواحف، تم تصنيف ووصف أكثر من 120 ألف نوع منها في جميع أنحاء العالم. ولا يوجد فيها سوى خمسة اختصاصيين في العالم، ومع ذلك، وبصرف النظر عن الفضول العلمي البسيط لحصر هذا الجزء الكامل من الكائنات الحية، يرى عدد متزايد من الباحثين أن انقراضاً جماعياً للأنواع يهدد الأرض. ويؤكد بوشيه: «نحن الجيل الأول من العلماء الذين يرون جدياً أن ثلاثة أرباع الأنواع في العالم من الكائنات الحية لا تزال تنتظر اكتشافها ووصفها، وأن الربع، والثلث، أو حتى النصف منها ستكون قد اختفت قبل نهاية القرن».ويبدو أن فريق البرنامج المذكور لن يترك مكاناً على الأرض إلا ويستكشفه، ففي كاليدونيا الجديدة مثلاً، لا يتم إهمال أي بيئة، سواء غابات المرتفعات، أو البرك، أو الجداول، وحتى المحيط. ففي الخريف الماضي، وخلال الرحلة الأرضية الأولى استطاع أخصائيو الحشرات الاستيلاء على ما بين 5 -10 آلاف حشرة باستعمال 30 فخاً من نوع ماليز (على اسم المخترع في 1930)، وهي على شكل خيام صغيرة تثبت في الغابة وترفع بعد أسبوعين. والحشرات التي تهبط على النسيج تتسلق غريزياً إلى الأعلى، تجذبها أشعة الشمس، لتقع نهائياً في الفخ: وهو عبارة عن زجاجة تحتوي على الكحول بنسبة تركيز 70 % توضع في الجزء العلوي من الشبكة. وخلال الرحلة البحرية، شرع الباحثون في استخدام عمليات التجريف والصيد من السفينة الأوقيانوجرافية «أليس»، وأجروا عمليات ضخ من البرك والأنهار. ولا شك في أن جمع الأنواع كانت في بعض الأحيان صاخبة، ولكن الصعوبات الحقيقية كانت تبدأ بعد ذلك. حيث يتم تصوير اللا فقاريات التي يتم اصطيادها بسرعة وهي على قيد الحياة قبل أن تنفق ويتغير لونها، ثم يتم فرزها والاحتفاظ بأغلبيتها في الكحول، في حين يتم تجفيف كمية كبيرة منها وتوضع في طبقات داخل صناديق. من جهته، يقوم بوشيه باستخدام تقنية مبتكرة مع القواقع كي لا تتقلص داخل الصدفات عندما تموت، حيث يقوم بوضعها أولاً في فرن «الميكروويف» قبل أن يغمرها في الكحول، فبهذه الطريقة تصبح عضلاتها مرتخية، ويمكن حينها فصلها عن القوقعة، أما في ما يتعلق بما إذا كان الحلزون هو نوع جديد، فإنه من المبكر حتى اللحظة الجزم بذلك. ومن الضروري انتظار الدراسة المخبرية، والتصنيف ضمن شجرة حياة هذا الحيوان. وهذه عملية تستغرق في المتوسط 21 سنة، بعد فرز العينات بدقة قدر الإمكان حسب الرتبة، ثم حسب الفصيلة ترحل إلى باريس.وتقول لور كورباري، المسؤولة عن جمع القشريات البحرية في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي بفرنسا MNHN: إنها خطوة تستهلك الكثير من الوقت، حيث يتم التعامل مع هذه العينات بعد جنيها بكميات كبيرة بدرجة عالية من الدقة والحرفية، حيث توضع كل فصيلة في أنابيب، ويتم نقلها إلى المتخصصين في أركان العالم الأربعة. وكثير من هؤلاء هم من الهواة المحترفين أو الباحثين السابقين، مثل رولاند هوارت، وهو سكرتير طبي بلجيكي سابق وشخصية بارزة في علم الموريسيدي (وهي فصيلة كبيرة تضم القواقع البحرية المفترسة) ؛ أو جاري بوور، مختص علم أحياء أسترالي متقاعد الذي حدد بالفعل 25 نوعاً جديدا تنتمي لعشاريات الأرجل.يقول جاري: «منذ مئتي عام، كان تصنيف الأنواع يعتمد على الشكل المورفولوجي، حيث كان يتم وصف كل جزء من جسم الحيوان بمصطلحات مناسبة، وتوضيحه بالرسم. أما في الصورة فتُفقد التفاصيل. هذا التقليد في التصنيف كان شائعاً في أوروبا، واستمر عند الهواة المحترفين حتى اليوم، وقد ساهم الإنترنت في تسهيل الوصول إلى الأدبيات العلمية الخاصة به، حيث يعمل هؤلاء المتحمسون جنباً إلى جنب مع الباحثين المحترفين، الذين يتفوقون بميزة التكنولوجيا من جهة، على الوصول إلى سلسلة الحمض النووي التي توفر الخصائص الجزيئية لأي نوع، أي هويته الجينية. ويمكن وصف ذلك بالباركود الحديث. ومع الوصف المورفولوجي الكلاسيكي يصبح هذا التسلسل الجيني ضرورياً لتمييز العينات الصغيرة التي تمتلك اختلافات غير مرئية للعين المجردة، أو عندما تكون تحت عدسة المجهر.وتقول كورباري: «إن وضع اسم على عينة هو تحقيق دقيق للغاية، إذ يجب علينا أولاً تحديد الرتبة التي ينتمي إليها الحيوان، ثم فصيلته، وأخيراً ملاحظة خصائصه المورفولوجية، وجنسه، حينها فقط يمكن للمختص أن يعرف ما إذا كانت العينة نوعاً جديداً أم لا.
مشاركة :