رحل الأديب الكبير والمفكر عابد خزندار، وهو رجل من رواد الصحافة والأدب في بلادنا، وقد كان من القلائل الذين تميزوا بالانفتاح على الثقافات العالمية مع الحفاظ على الهوية العربية والاسلامية، وناقدًا يحمل في ضميره أثقال الواقع وآمال الغد، في نظرة نقدية واقعية متطلعة تستهدف بنقدها تصويب الحاضر والمستقبل، وأحببت في هذه المقالة أن نشترك معًا في الاطلاع على كلمات كتبها والدي -رحمه الله- عن مآثر الأديب الخزندار، الذي حزنا جميعًا لفراقه -رحمة الله عليهم جميعًا- ومما قاله الوالد في كلمته: «إن الأستاذ الأديب الناقد عابد خزندار قيمة أدبية لم تكتشف ولم تسلط عليها الأضواء بصورة تعطيها حقها في الدراسة والتقييم، لأنه في رأيي رجل مبدع نهل من ثقافتين، وتكلم وكتب بأكثر من لغة، فهو ممن يستحقون الوقوف عند عطائهم والتعمق في فكرهم وأدبهم، وهو واحد من القلة من الكتّاب الذين أسسوا لأنفسهم قاعدة عريضة من الثقافتين العربية الإسلامية والغربية، وبعد ان تمكن من إرساء هذه القاعدة المبنية على أسس سليمة، أخذت كتاباته تحتل موقعًا في الصحافة المكتوبة، ونلمس عند الكاتب والناقد والأديب الخزندار توجهًا لمعرفة النقد الغربي الحديث ومدارسه المتعددة من كلاسيكية ورومانسية ورمزية ولسانية، ثم محاولة نقل هذه المفاهيم النقدية الغربية إلى الثقافة العربية والمحلية، وهو إن تمكن من أدوات ووسائل هذا النقد الحديث الذي ظهر من قبل عند مدرسة الديوان، وجماعة المهجر، وجماعة أبوللو، فهو لم يأل جهدًا في التمكن من الثقافة العربية والإسلامية الأصيلة، خصوصًا عند الجاحظ والتوحيدي والغزالي، وقد استطاع أن يقتحم المعاهد والمؤسسات الغربية وخاصة الفرنسية، وأن يدرس عن هؤلاء الرواد باللغة الفرنسية، في الوقت الذي نجد فيه البعض يكتفي بالاطلاع على الثقافة الغربية والنأي عن ثقافته، وكأن الخزندار أراد أن يبرهن على أن من يجيد أصول وأسس ثقافته يمكنه إجادة لغة وثقافة الآخرين، وهو -أي الخزندار- على كثرة اطلاعه على مصادر الثقافة الغربية فقد ظل وفيًا لثقافته الأصلية ومعتزًا بها، كما أنه على رغم هذه الثقافة العميقة ظل قريبًا من القاريء اليومي للصحافة حيث استطاع على مدى عقدين من الزمن أن يطرق قضايا اجتماعية عديدة، وقليل أولئك الذين يملكون هذه الموهبة التي تدل على وعي الكاتب بأن يظل قريبًا من هموم الناس، وألا تشتط به ثقافته فيصبح في برج عاجي وينتظر الآخرين أن يصلوا إليه أو يبلغوا مراميه، كما كان تناوله للقضايا الاجتماعية بأسلوب قوي وجريء هو ما تحتاجه الأمة في مراحل بنائها الاجتماعي والفكري والثقافي وأنا شخصيًا فكرت طويلاً عندما عزمت على الحديث عنه لأنني كنت في حيرة عن أي الجوانب يمكن أن يتناولها من يكتب عنه من حياته الفكرية، فقد عرفت فيه شخصًا متعدد الثقافات والاتجاهات، ذا رأي في كافة القضايا الوطنية والإقليمية والعالمية، وقد انعكست هذه الصفات حتى على المجالس التي يرتادها والتي تضم كل التيارات الثقافية والسياسية، وهو بارع في طرح القضايا، وتناولها بأسلوب الكاتب المتمرس ذي الخلفية الثقافية العريضة رغم أنه -وكما صرح بذلك في حديثه لإحدى الصحف- لم يتطلع قط أن يكون كاتبًا ولكنه جر إلى الكتابة بمحض الصدفة، وفي حياته محطات بارزة أقساها تلك السنوات التي قضاها بالسجن لأسباب يقول: إنه يجهلها وإن كانت تعزى لأرائه المتحمسة فقد عرف عنه الجرأة المطلقة والصراحة التي لا تخفف حدتها مدى العلاقة التي تربطه بالشخص الذي يتحدث عنه، الأمر الذي كثيرًا ما أغضب العديد من أصدقائه الذين دخل معهم في مناقشات جدلية، ومن أبرز السمات التي يتصف بها تناوله للقضايا عدم استناده على النظريات المتوارثه محليًا فهو يرى أن واجب المثقف أن يطلع على الأفكار والفلسفات حتى يصل إلى تكوين رأي خاص به، لذلك كانت الجدية في الطرح علامة فارقة في معالجتة للقضايا، ساعده على هذا الأمر -ـكما ذكرت- تمكنه من بعض اللغات الأوروبية وأبرزها اللغة الفرنسية التي أجادها بعد أن أحب فرنسا ودرس بها ونهل من ثقافتها وظهر حبه لعاصمتها باريس واضحًا في مقالات نشرت له بجريدة الرياض، لذلك هو يعتمد في استقاء المعلومات على الحصول عليها من مصادرها الأصلية وليس اعتمادًا على الترجمات، وتتعد آراء الخزندار بتعدد القضايا المعاصرة فهو يرى أن الكاتب يجب ألا يحبس نفسه في مناطق معينة فكان له رأي في صراع الحضارات معتبراً أن هذا الصراع ليس صراع أديان -كما يدعي- بل هو صراع حضارات يتميز بالإيجابية لأنه يؤدي في نهاية المطاف إلى رقى العالم، واستأثرت قضية المرأة في بلادنا بجزء كبير من اهتماماته، معترفًا بأن لها حقوقًا كثيرة لم تنلها بعد، وكتب كثيرًا عن الحداثة وتميزت كتاباته عنها بالمقارنة بينها وبين مثيلتها في الآداب الأوروبية ساعده على ذلك تمكنه التام بتلك اللغات، وباختصار فهو دائم الحضور إذ قل أن يخلو مشهد ثقافي أو اجتماعي من إبداعاته لم يتخلف عن مواكبة التقنية الحديثة فدخل عالم الإنترنت كذلك أصبح يكتب مقالاته بالعربية والإنجليزية على الكمبيوتر، لم يتوقف عن الإدلاء بآرائه حتى بعد أن أصيب بكسر في الحوض لزم على إثره السرير بأحد المستشفيات فكانت غرفته بالمستشفى أشبه بالمنتدى يلتقي فيه مع أصدقائه من أصحاب الفكر، ويناقش معهم كافة القضايا وكان يرحب بالصحفيين الذين وجدوها فرصة سانحة لإجراء مقابلات مطولة معه، ورغم أن للصديق عابد خزندار عددًا من المؤلفات في الشعر والحداثة والإبداع فلا يزال لديه الكثير الذي لو أراد أن يدونه في مؤلفات لتضاعف عدد مؤلفاته، وقد سررت وأنا أرتاد بعض المجالس الأدبية في خارج المملكة وخاصة في مصر والمغرب العربي ورأيت أنهم يتابعون ما يكتب في بلادنا ويتعرفون على رجال الأدب والفكر في وقت نغفل نحن عنهم وعن أدبهم وفكرهم وكان من ضمن اهتماماتهم إبداعات الأستاذ عابد خزندار في الأدب الحديث على وجه الخصوص، وختامًَا فمعذرة إذا كنت لم أوف هذا الإنسان حقه، فأنا أكتب في عجالة وأرجو لأخي الأستاذ عابد خزندار مزيدًا من التوفيق وأقول بكل صراحة إنني ممن يتابعون كتاباته ومعالجاته الثقافية، وإذا قصرنا سامحونا كما نقول في مكة». رحم الله الوالد ورحم الأديب عابد خزندار وطابا حييين وميتين، وجزاهما الله خيرًا على ما قدما فقد كانا نعم الابنين البارين والمخلصين لهذا الوطن العزيز وأبت همومه إلا أن تسكن في قلبهما وأن تسكن في فكرهما ووجدانهما فنسأل الله أن يسكنهما الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
مشاركة :