تبادلت القاهرة وموسكو في الأيام القليلة الماضية زيارات الوفود لترتيب زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مصر في 9 و 10 شباط (فبراير) الجاري. وهي الزيارة رسمية الأولى لرئيس روسي منذ 6 سنوات. ويحظى لقاء بوتين والسيسي بزخم إعلامي إقليمي ودولي، فبعد مرور أكثر من ستة أشهر على زيارة السيسي لموسكو في آب (أغسطس) الماضي ونحو عام على زيارته الأولى عندما كان وزيراً للدفاع، ما زال الحديث حول العلاقة بين الدولتين قائماً. وتبدو القيادة الجديدة في القاهرة راغبة في إعادة توطيد الصلات مع موسكو وعودتها إلى ما كانت عليه زمن الخمسينات والستينات عندما ساعد السوفيات مصر في بناء السد العالي ومجمع الألومنيوم في نجع حمادي ومد خطوط الكهرباء من الصعيد إلى الإسكندرية، فضلاً عن دور الروس في تحديث الجيش المصري، وهو ما كان له عظيم الأثر في إنجاز نصر تشرين الأول (أكتوبر) 1973 على رغم طرد السادات الخبراء السوفيات. وتدشن زيارة الرئيس الروسي محطة جديدة من العلاقات بين البلدين في مرحلة ما بعد الثلاثين من حزيران (يونيو)، إذ كان بوتين أول من أعلن دعم بلاده تطلعات المصريين والإدارة الانتقالية في مصر برئاسة عدلي منصور، في الوقت الذي كان الفتور هو العنوان الأبرز للعلاقة عام الرئيس مرسي. وترتكز زيارة بوتين للقاهرة على ثلاثة محاور، أولها تنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية، بما فيها مجالات الطاقة وتحديث المصانع التي تم تدشينها في مصر بخبرة سوفياتية سابقة، وتنمية منطقة قناة السويس، إضافة إلى التعاون في مجال البحث العلمي، حيث تعتبر روسيا القاهرة «شريكاً استراتيجياً». أما المحور الثاني فيرتبط بالجانب العسكري، إذ تتطلع القاهرة إلى إعادة تحديث مؤسساتها العسكرية عبر تنويع مصادرها، وتعويض التكنولوجيا الأميركية في ظل مراوغة إدارة أوباما لتسليم صفقات تسليح للقاهرة (طائرات الأباتشي) فضلاً عن المراوحة في التعامل مع تنظيم «الإخوان المسلمين» واستقبال واشنطن أخيراً وفد الجماعة التي تعتبرها القاهرة «إرهابية». وزار وفد من الجيش المصري موسكو مطلع الشهر الجاري في إطار تعزيز التعاون في التخصصات العسكرية. وينصب المحور الثالث على الجوانب السياسية والتفاعلات الإقليمية والدولية وانعكاساتها على استقرار منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً الوضع في العراق وسورية وليبيا إضافة إلى التسوية الفلسطينية - الإسرائيلية. وعلى رغم وجود تطابق في الرؤى إزاء قضايا المنطقة فضلاً عن قطع شوط معتبر على صعيد التعاون العسكري بتسليم مصر دفعات من صفقة التسليح الأخيرة التي عقدت في آب (أغسطس) 2013 والمقدر قيمتها بنحو 4 بلايين دولار، إلا أن البعد الاقتصادي يظل هو الأهم. فعلى الصعيد الاقتصادي، تعتبر روسيا الشريك الرئيس لمصر فضلاً عن استثمارات الشركات الروسية العملاقة على الأراضي المصرية مثل غاز بروم، و Novatek و Lokoil. ، وزادت الروابط التجارية بعد العقوبات الأوروبية على موسكو جراء ضمها شبه جزيرة القرم، الأمر الذي سمح للقاهرة أن تكون أحد المصادر البديلة التي تبحث عنها موسكو. ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 3.6 بليون دولار متضمنة نصف بليون صادرات مصرية إلى روسيا و 3.1 بليون دولار واردات روسية إلى مصر. صحيح أن حجم التبادل التجاري بين القاهرة وموسكو شهد طفرة نوعية في العام 2014 مقارنة بالعام 2013، إذ كان معدل التبادل التجاري 2.9 بليون دولار إلا أنه ما زال عند حده الأدنى، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة، منها حالة الاحتقان السياسي في مصر، وتنامي معدلات العنف بعد عزل الرئيس مرسي، وهو الأمر الذي أدى إلى تقليص مجالات التعاون، وفي مقدمها السياحة الروسية. وثانيهما تباطؤ معدلات النمو العالمي في ظل الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة العربية وامتدت آثارها إلى أوروبا وأميركا اللاتينية وبعض الدول الأفريقية. أما السبب الثالث فربما يعود إلى ارتفاع حرارة المشهد في روسيا وتنامي معدلات قلق السوق الاقتصادية فيها على خلفية الأزمة الأوكرانية، ووصول المناخ مرحلة الشحن بين موسكو وعدد كبير من الحكومات الغربية. مع ذلك قد تغدو مصر مُصَدِّراً رئيسياً للعديد من السلع إلى السوق الروسية بعد حالة الاحتقان التي تعتري العلاقات الأوروبية الروسية، ولجوء الأخيرة إلى سلسلة من التدابير القاسية رداً على عقوبات الاتحاد الأوروبي، حيث فرضت حظراً لمدة عام على أنواع من المنتجات الزراعية، والخامات، والمواد الغذائية من أوروبا. كما تعتبر روسيا مصدراً مهماً للاستثمار الخارجي، حيث يصل حجم الاستثمارات الروسية في مصر إلى نحو 67 مليون دولار بإجمالي عدد شركات 363 موجودة بـ13 محافظة مصرية، على رأسها محافظة البحر الأحمر وبها 221 شركة روسية، في مقابل 78 شركة في القاهرة، بينما توزّع باقي الاستثمارات على محافظات أخرى منها سيناء. ويتركز الاستثمار الروسي في صناعة السياحة والنفط في منطقة البحر الأحمر، وفي ضوء زيارة بوتين ستدخل روسيا السوق المصرية في مجالات صناعة البتروكيماويات وصناعة السيارات ومجال الطاقة النووية والطاقة المتجددة عبر مشروعات عدة اقترحتها الحكومة المصرية. وتأتي روسيا في المرتبة 46 من حيث الدول المستثمرة في مصر. في المقابل، وصل حجم الاستثمارات المصرية في روسيا إلى 13.7 مليون دولار حتى نهاية 2012 يتركز معظمها في مخازن للأخشاب التي يتم تصديرها إلى مصر وبعض المعاملات العقارية، وبينما يرجى وصوله إلى نصف بليون دولار بحلول عام 2020 في ظل الأزمة الأوكرانية وانسحاب شركات غربية من السوق الروسية. في سياق متصل، تعكس الزيارة أهمية العلاقة للجانبين، وبخاصة الشق الاقتصادي ومن خلفه العسكري، وهو ما ظهر في تبادل الوفود قبل بدء الزيارة، والتصريحات التي كشف عنها الجانبان، حيث حرصت روسيا على ترسيخ الجانب الاقتصادي حين أعلن نائب رئيس الوزراء أركادي دفور كوفيتش خلال زيارته القاهرة في 16 كانون الأول (ديسمبر) الماضي «تتطلع بلاده لإقامة منطقة للتجارة الحرة بين مصر والاتحاد الجمركي الأوروآسيوي الذي يضم كلاً من روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا». إلى ذلك، حرصت الإدارة المصرية على بث رسائل تطمين للمستثمرين الروس، فبالإضافة إلى تأكيد احترام الدولة حقوق المستثمرين الأجانب، ثمة حـــزمة من التشريعات الاقتصادية ستكون محل نقاش بين القيصر والجنرال بهدف تعزيز موقف روسيا واستثماراتها. وكانت الحكومة المصرية أقرت طوال الشهور الأربعة التي خلت مجموعة من التشريعات الاقتصادية لتحسين مناخ الاستثمار، وجذب الاستثمارات الأجنبية، ومن بينها الاستثمارات الروسية. وإذا كان الجانب الاقتصادي هو العنوان الأبرز لمشهد زيارة بوتين، فإن ثمة أولوية لا تخطئها عين للجانب السياسي والأمني، إذ تتعدد وتتشابك المصالح والقضايا ذات الاهتمام المشترك بين البلدين، وفي مقدمها مكافحة الإرهاب، والتعاون في شأن الأوضاع في ليبيا والعراق فضلاً عن التنسيق المشترك إزاء حل الأزمة السورية، وكان بارزاً، هنا استضافة القاهرة في كانون الثاني (يناير) الماضي مؤتمراً للمعارضة السورية قبل لقاء موسكو في نهاية الشهر نفسه. وعلى رغم أن العلاقات بين روسيا ومصر شهدت خلال العقود الماضية تعـاوناً وانكساراً، إلا أن المرحلة الحالية تقدم نموذجاً مختلفاً، يتمثل بتطور التعاون السياسي والعسكري، وتعكس مسيرة السياسة الخارجية المصرية منذ تولّي عبدالفتاح السيــسي سدة الســـلطة بوضوح هذا التوجه. غير أن ثمة معوقات أمام مزيد من توثيق العلاقات المصرية الروسية، تتمثل في مجموعة من القضايا منها ضعف الصادرات المصرية لروسيا، واختلال الميزان التجاري لمصلحة موسكو ناهيك عن قيام بعض الجهات الرقابية الروسية بتشديد الرقابة على الصادرات المصرية، حيث تم فرض حظر على البطاطس المصرية خلال العامين 2011 و2012 بدعوى إصابتها بمرض العفن البني من دون تقديم أدلة صحية. القصد أن زيارة بوتين للقاهرة تمثل نقلة نوعية في تاريخ العلاقات وأهميتها فضلاً عن أنها تحمل أهمية استثنائية سواء لبوتين الطموح في استعادة إرث الإمبراطورية السوفياتية من جهة ومن جهة ثانية استعادة النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط ومجابهة النفوذ الأميركي، ولعل ذلك ما دفع بوتين إلى مد جسور التواصل وبناء روابط تجارية مع نيودلهي وبكين وأيضاً تركيا، رغم تباين توجهاتهما السياسية إزاء سورية وأرمينيا وأزمة المسلمين في الشيشان. أما الرئيس عبدالفتاح السيسي فلديه طموح بالحضور على المسرح الدولي، وأيضاً تطوير صورة النظام المصري دولياً رداً على دعاوى ما زالت تصفه بالانقلاب.
مشاركة :