في أواخر التسعينات قمتُ مع جمع من الأصدقاء بجولة بريّة شملت مناطق في شمال غربي السعودية، الانطلاق من المدينة، زرنا العلا، والبدع، تبوك، ضبا، ومقنا، وقيال، وحقل، وسواها... شيء مدهش كل ما تشاهده، آثار عظيمة، لكنها غارقة بكهوف من الظلام. لم أفهم طوال السنين سبب الخوف من مواجهة هذه الآثار بالاستثمار. كل تلك المدن تحوي ثيمة، نحتاً، أو ميدان قصة، وجذوة حكاية، لكنها بقيت طوال السنين مجرد أراضٍ خاوية، لا تسمع بها إلا صفير الهواء، وفحيح الزواحف، وحين تغرب الشمس تشعر بالانقباض... ظلام كأنه دخانٌ مبين.منذ تصريحات الأمير محمد بن سلمان الأولى والحديث عن استثمار الآثار وتوظيفها ثقافياً وسياحياً وفنياً محل تصميم وإصرار. خلال سنواتٍ قليلة رأينا شجرة الرؤية بدأت تؤتي ثمارها.يعرف مستوى التطوّر من يزور السعودية من شتى الأصقاع إذ يلمسون وجه المدن وقد ارتسمت فيها معالم أخرى غير التي كانت. لقد ربض الركود على المدن السعودية ردحاً من الزمن بسبب افتقاد الرؤية الوازنة، والإرادة المصممة. وحين طرح الأمير محمد بن سلمان رؤيته لم يعد لصراعات التيارات الفكرية أي قيمة، الآن نحن أمام مشروع دولة على الجميع الإيمان به وتشجيعه، ستتاح خيارات في كل مدينة، ولكنها ليست إجبارية وإنما اختيارية، وعليه فإن أي تجيير للتغيير من قبل أي تيار لا يخدم المشروع التنموي في البلاد.مهمة الدولة من الناحية المفهومية أن تضع المؤسسات متنوعة بأيدي الجميع، تتاح الخيارات الترفيهية، والدعوية، والفنية، والسينمائية، والعلمية، والفكرية، كلها محل تكاملٍ في المدينة. وليس الهدف من أي مشروع فني ضرب الدعوة، كما أن المشاريع الدعوية المرعية حكومياً لا تستهدف الأنشطة الفنية. كل هذه الخيارات تتكامل لتكوين دولة مؤسسة متنوعة الروافد، ومهمة الدولة ضبط أي اختلال بين أي تداخل بين مؤسسة وأخرى.على سبيل المثال، ثمة مشاريع موسيقية رائعة ومتوازنة: شتاء طنطورة بإشراف الهيئة العليا لتطوير العلا، ومهرجانات الموسيقى الفنية في المدن السعودية وروافدها بإشراف هيئة الترفيه، والآن دخل أخيراً مشروع تعليم الموسيقى تدريجياً بدعم من وزارة التعليم. كل هذه تبيّن أن الرؤية متكاملة متوازنة، فالدروب الفنية لا تسير ضمن مؤسسة واحدة، وإنما ضمن رؤية كاملة تشمل التعليم والمسرح والرعاية.في المشهد الحالي نرى تحولات استثنائية، ماجدة الرومي، برقيها الفني، وصوتها الأوبرالي، والكلمات المنتقاة بعناية، والموسيقى الآسرة، تغني ضمن فعاليات شتاء طنطورة، وبصحبتها أكثر من مائة شخصية لبنانية، من شتى المؤسسات. الانبهار بهذه التحولات أمر طبيعي، ولكن في التصريحات التي ألقوها نلمس ملاحظات ثلاثاً: أولها: الفرح بالتطور التنموي والثقافي والفني في السعودية بما يجعلهم يتذكرون لبنان في ذروة مجده واستقراره. وثانياً: التأكيد على التلاقي الثقافي مما يعزز العلاقات الحوارية الحضارية بين المسيحيين والمسلمين في المنطقة، كما يعبر وزير الإعلام اللبناني ملحم الرياشي. والثالث: العتب على التغييب التاريخي لهذه الآثار طوال مائة عام من تاريخ السعودية، حتى جاء الأمير الشجاع محمد بن سلمان وعرف كل شبر من أرضه كيف يستثمرها ويبهر بها العالم.كذلك الأمر في بقية الحفلات، ولكن الأهم أن يركز الخطاب الإعلامي السعودي على الجوانب الثقافية للفنون، وذلك لإخراجها من التصورات السطحية الاجتماعية باعتبار الموسيقى مجرد طبل ورقص أحمق، وإنما لها أسسها وتأثيراتها على الأخلاق والسياسة والعلوم والفلسفات.يمكن الاستفادة من الدرس الموسيقي التاريخي لتعليم الأجيال الصاعدة بأنماطها وأبوابها، ثمة كتب ثرية مثل «أسرار الموسيقى» لعلي الشوك، وكتاب فؤاد زكريا: «مع الموسيقى» وهو مزيج من السيرة الذاتية والسرد الموسيقي والربط الفلسفي (برغم تطرفه ضد الموسيقى الشرقية) وكتاب «الأوبرا» لنذير جزماتي، ومذكرات الموسيقيين الكبار ومراسلاتهم، وكذلك الكتب المعنية بتاريخ الموسيقى في العصور الإسلامية. كلها متوفرة ومتاحة يمكنها تعميق الرؤية الفنية للفرد ليخرج من التصور التقليدي الضيق عنها.من جميل أقوال جون باور المأثورة: «لقد وجدت حضارات بلا رياضيات، حرمت من العجلة أو الكتابة، لكن لم توجد حضارة بلا موسيقى».
مشاركة :