لم يخرج الرئيس السوداني عمر حسن البشير من زيارته للدوحة بنتيجة محسومة لصالحه ولم يحصل على ما كان يتوقعه أو يرجوه من مساعدات مادية ومعنوية سخية، مثلما بدت تصريحات المساندة منذ بداية التظاهرات رمزية ولم تحمل إشارة تؤكد الرغبة في إنقاذ النظام السوداني من العثرات التي يواجهها على وقع استمرار الاحتجاجات. يُحسب للرئيس السوداني أنه في مقدمة رؤساء دول المنطقة الذين حرصوا على نسج علاقات مع دول مختلفة، ويُحسب له أيضا قدرته العالية على التنقل من دولة إلى أخرى معادية له، بل نجح في الجمع بينهما لبعض الوقت، وساعدته انتهازيته السياسية على نسج خيوط كثيرة مع جهات متناقضة. طبق هذا التوجه على المستوى الداخلي، وكان يقرب ويبعد بعض الأحزاب وقياداتها، بصرف النظر عن ألوانها السياسية، ما ساهم في بقائه على رأس السلطة لمدة تصل إلى ثلاثين عاما، حيث استثمر الفجوات بين المعارضة وهزمها بعد أن فكك روابطها البينية من خلال استقطابات وإقصاءات وإغراءات متعددة. عندما جاءت لحظة المواجهة المصيرية، مع اندلاع تظاهرات متواصلة منذ 17 ديسمبر الماضي، لم يجد الرجل مساندة خارجية واضحة، ولا تأييدا داخليا محددا، ومعظم الجهات التي تحالف معها أو بدا منسجما مع تصوراتها انفضت عنه، بدءا من قطر وتركيا في الخارج، وأحزاب المعارضة التي شاركت في حكومات متتالية بالداخل، ورفعت غالبيتها شعار القفز من السفينة قبل غرقها. يتسق ما يمكن وصفه بـ”الانفضاض” هنا وهناك، مع التحركات التي تبناها النظام، وجعلته يتنقل من معسكر إلى معسكر بسهولة شديدة، وفقا لمتطلبات المرحلة، وطبيعة التحديات التي يمر بها، وكلها علامات لم تكن خافية على كثيرين، لكن هؤلاء قبلوا التجاوب، لأن البشير لا يزال يقبض بقوة على زمام السلطة، ولم يتوقعوا أن ترتخي بسهولة في اللحظة التي يستعد فيها للترشح لمنصب الرئيس العام المقبل. تحول التقلب إلى جسد النظام نفسه، ما أدخل عددا كبيرا من رموزه في مرحلة غليان مستتر، واستهلك الرئيس السوداني عددا كبيرا من القيادات التي وقفت بجواره، منهم من أبعدهم وأقصاهم تماما، ومنهم من تواروا ومكثوا في الظل ثم استدعاهم مرة أخرى، مثل صلاح قوش رئيس جهاز المخابرات والأمن الوطني، وكانت الزاوية الوحيدة التي تجمع من في الحكم ومن خرجوا منه، الالتفاف حول المنبع الأساسي للسلطة، وهي الحركة الإسلامية. أجاد البشير هذه اللعبة على الصعيد الداخلي، ووظفها خارجيا في تقريب أو إبعاد هذا أو ذاك، لعدم إزعاج الدول القلقة من جذوره الإخوانية، والتي كانت تقبل التعامل معه لمنع انحيازه إلى الفريق المضاد، وتخفيف الأضرار الناجمة عن الالتصاق بلا مواربة مع إسلاميين، بينما تصورت الخرطوم أنها أحكمت السيطرة على الأمور وكسبت ولاء الجميع. نجح النظام السوداني في الاستفادة من هذه المناورات لفترة من الزمن، وانحاز صراحة للحركة الإسلامية، وردد جميع زعاماتها في أحاديثهم المعلنة والجانبية أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم ذراعها السياسية، واستقبلت الخرطوم قيادات إسلامية من شتى بقاع الأرض، ووفرت ملاذات آمنة لكثيرين منهم، وقام البشير بطرد وتسليم عدد منهم لدول مختلفة، عندما وجد هناك مصلحة سياسية واقتصادية. لعل شهادة أخيرة لبعض المسؤولين الأميركيين عندما وجهت إليهم انتقادات من قبل الكونغرس لقيامهم باستقبال صلاح قوش رئيس المخابرات والأمن الوطني في السودان العام الماضي، أكبر دليل على عدم احتفاظ الخرطوم بكثير من الولاءات والثوابت السياسية، فقد برر هؤلاء استقبال قوش بأنه الرجل الذي قدم لواشنطن عشرات الأسماء لشخصيات متطرفة مرت على بلاده. تفسر هذه الطريقة أحد أسباب صمت الكثير من القوى الإقليمية والدولية، التي ترى في البشير فوائد، وهي من العوامل التي جعلت قرار المحكمة الجنائية الدولية حبرا على ورق، بعد اتهامه بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور. وقام الرجل بزيارات شرقا وغربا ولم يتم توقيفه رسميا في أي دولة، وكأنه حصل على حصانة ضد تسليمه وتنفيذ هذا القرار، كما أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والولاياتية التي جرت في بلاده خلال السنوات الماضية حصلت على إشادات من بعض الدول الغربية التي وجدت في نظام الخرطوم مزايا قد تفوق العيوب أحيانا، ولم تفلح انتقادات المنظمات الحقوقية في التشكيك بها على نطاق واسع. ابتكر النظام السوداني حالة نادرة من المرونة والتقلبات المزاجية، سهلت عليه تجاوز الكثير من العواصف السياسية، وأجبرته على أن يعتبرها خيارا رئيسيا للحكم ومنجاة له، وهي قراءة لها دوافعها الخاصة، وأثبتت نجاعتها في أوقات متباينة، لكنها من الصعوبة أن تصبح مفيدة في الوقت العصيب الراهن. يمر السودان بمرحلة فارقة اليوم، فالنظام أخفق حتى الآن في التعامل مع الأزمة الاقتصادية الحادة، ولم يقدم وصفة للعلاج يمكن أن تكون مقنعة، واتجه إلى استهلاك الوقت، عسى أن تذبل التظاهرات، وركل بقوة الكرة في ملعب المعارضة ولجأ إلى نظرية المؤامرة، وكلها طرق لم تحمل مؤشرات تؤكد عمق الفعالية السياسية. يتزامن ذلك مع سخونة متصاعدة داخل بعض الأجهزة الأمنية، لا تريد تحمل مسؤولية حدوث صدام مع المواطنين في الشوارع، وإخفاق ملحوظ في الجهاز الإداري للدولة، وشلل شبه تام في الهياكل الحزبية للمؤتمر الوطني. والأهم أن الحركة الإسلامية، الرافد الكبير لنظام الحكم، لم توفر الدعم اللازم للرئيس السوداني، وكأنها لا تريد الإبقاء عليه، أو ابتزازه للحصول على مكاسب عديدة لكوادرها التي جرى تهميشها نسبيا في ظل انحناءات وتراجعات مر بها النظام السوداني في الأشهر الماضية. عندما تحدث مؤخرا علي عثمان محمد طه، نائب الرئيس السوداني سابقا، كان خطابه بعد التظاهرات يركز على فلسفة ثورة “الإنقاذ” وشبابها في إحالات مباشرة للبعد الإسلامي في نظام الحكم الحالي، وهو الذي أبعد عنه وخرج من هياكل الحزب قبل سنوات، لكن خطابه لم يلق قبولا لافتا على المستوى، لأن الرئيس البشير يدرك أن التلاحم معه خسارة أطياف في الداخل والخارج، وهي معادلة دقيقة تحتاج إلى توازنات تستطيع التوفيق بين محددات متباعدة. لذلك لم تتحرك الأزمة خطوة واحدة، ولم تفلح المسكنات في تهدئتها ويمكن أن تمضي الاحتجاجات نحو زيادة التصعيد في الشارع، وباتت على النظام السوداني مهمة دقيقة تتعلق بحسم الكثير من خياراته، فالمقبول خلال السنوات الماضية لم يعد صالحا للتعامل مع المعطيات الحالية، لأن الرئيس البشير استهلك الكثير من الفرص، ولم يعد يثق فيه كثيرون، ومن الطبيعي أن يظل مترنحا، ولا يستطيع كسب المناصرين القدامى، كما أن قدرته على كسب مؤيدين جدد محدودة. فوق كل ذلك انتهت صلاحية الطريقة التي يدير بها الدفة للتجديف بصورة سليمة، تمكنه من عبور النهر بأقل خسائر ممكنة، ما يفسر الفتور الخارجي في تلبية حاجاته الاقتصادية الملحة، والبرود الداخلي الظاهر وعدم الثقة في وعوده للإصلاح الشامل. علّمت التجربة الجميع أن عمر البشير يبدو مطيعا عندما تكون له حاجة ملحة مع أي من القوى المتصارعة، وعقب تجاوزها يظهر جانبا مختلفا ومخيفا، وحققت له هذه الأداة نتائج مريحة، لكن في العامين الماضيين فقدت بريقها، ومع اندلاع التظاهرات لم تعد لها قيمة أو جدوى سياسية. مع صعوبة الخيارات المتاحة لتخطي الأزمة على أي جهة ستتولى الحكم في السودان إدراك أن المواءمات عملية مهمة، لكنها لن ترقى إلى حد التناقضات الفاضحة، وأصبح من الممكن لكل دولة أن تتفق وتختلف مع أخرى في قضية واحدة من دون أن تكون تقلباتها حادة ومفاجئة في جميع قضايا وفروع الأزمة.
مشاركة :