قلت لصاحبي الصحوي عندما جاء (يعظني): كتبتُ مراراً وتكراراً عن وجهة نظري في الطرح الصحوي الذي تحدثني عنه، ومضمونه: أن الشريعة شقان: عقيدة وعبادات وهذه بلا شك (ثوابت) لا تتغيّر ولا تتبدل بتغيّر الزمان والمكان. الشق الآخر: الأمور الدنيوية المتعلِّقة بتعامل الإنسان مع الإنسان، والتي تدور غاياتها مع مصالح الإنسان، حيث دارت، وليست كما تتوهمون (ثابتة) لا تتغيّر؛ مشكلتكم – يا سيدي – أن كل النماذج التي تطرحونها كحلول للهروب من براثن التخلّف، وتذبون عنها على اعتبار أنها مطالب الشريعة تكمن (فقط) في استيراد اجتهادات فقهية من فقهاء الماضي السحيق، أو تقيسون عليها أحياناً في فتاويكم، ثم تطالبون بتطبيقها اليوم، دون أن تلتفتوا إلى أن قضايا الشريعة الدنيوية وأحكامها ليست ثابتة، وإنما متغيِّرة بشكل مستمر، لذلك فإن أساس نجاح أية منظومة تشريعية، مثل دساتير الدول، تتوقف على مدى ملاءمة موادها التشريعية للزمان والمكان ومفهوم العدالة في المجتمع؛ فلا يمكن لك – مثلاً – أن تطالب، فضلاً عن أن تُشرع، (جهاد الغزو) بحجة أنه مطلب شرعي رباني، لأنه قضية يرفضها العالم أجمع، أو أن تُشرع نظاماً للسبايا في الحروب، أو تُفعِّل الرق وعبودية الإنسان للإنسان.. وهلمجرا.. داعش – مثلاً – طبّقت هذه المفاهيم الفقهية بحذافيرها عندما أنشأت دولة سمتها (دولة الخلافة) على أساس أنها تحكم بالشريعة التي تتضمنها المدونات الفقهية، وأمامكم وضعها وموقف كل دول العالم قاطبة منها بما فيها كافة الدول العربية والإسلامية؛ فلماذا لا تحاولون أن تطرحوا حلولاً تشريعية صالحة للعصر لا ممتنعة عن التطبيق في هذا الزمن، فتحدي العالم، وعدم الاكتراث برؤيته للعدالة الإنسانية، سيكون قطعاً ضرباً من ضروب الانتحار وتدمير الذات؛ كما أن تغيّر الفتوى نظراً لتغيّر الزمان والمكان والظروف منهج فقهي أصيل، طبّقه الإمام الشافعي – رحمه الله – عندما انتقل من العراق إلى مصر، فغيّر فتاويه تبعاً لتغيّر المكان، فالمطلوب شرعاً هو تحري العدل والإنصاف دائما وأبداً. المسلمون – كأمة – يعيشون اليوم مستهلكين لا منتجين، يعتمدون اعتماداً كاملاً على منتجات العالم الليبرالي الذي (تشنعون) عليه في كل أدبياتكم؛ رغم أن الحلول الليبرالية، لا حلولكم، هي الناجحة والمتفوّقة والتي ثبت بالتجربة أنها آتت أكلها، واستجابت فعلياً لحاجات ومتطلبات الحياة والسلام بين الأمم، فهل يوجد إنسان عاقل يرى أمامه سبيلاً سالكاً ممهداً ومجرباً، فيتجنبه، ويسلك طريقاً مجهول النهايات، ولا سيما أن السبيل الذي تطالبوننا بانتهاجه سبق أن تمت تجربته من قبل الدول التي حكمها المتأسلمون، فأودى بهم إلى مهالك وأهوال ودماء ودمار يشيب لهولها الولدان؟.. مشكلتكم، وأحد أهم أسباب فشلكم، أنكم (تُحرمون) الحلول الليبرالية المعاصرة، بتهمة مختلقة تقول إنها لا تتفق مع الشريعة؛ ومن يقول بذلك منكم فهو إما أنه يجهل معنى الشريعة وغاياتها ومقاصدها، أو أنه يجهل طبيعة الليبرالية وحقيقتها وغاياتها، أو أنه يجهل هذه وتلك معاً. فالليبرالية موقفها من الإسلام، كما نزل على محمد، وليس كما أدلجه بعض الفقهاء والمتأسلمين، أضف إلى ذلك أن الليبرالية هي عدة ليبراليات، ذات خيارات متعددة ومرنة، يستطيع الإنسان أن يُكيِّفها ويفصّلها ويطوّرها تبعاً لمصلحة الإنسان والعدالة الاجتماعية بين الأفراد، وليست شكلاً (متكلساً) واحداً له مضمون وحدّياّت صارمة، لا تتغيّر ولا تتماهى مع المنافع ومصالح البشر؛ الشرط الوحيد الذي ربما تشترطه كل التجارب الليبرالية، ويتفق مع الفطرة الإنسانية، ويمكن القول إن الليبرالية لا تتحقق إلا به كشرط ضرورة، هو (الفردانية)، وهذا المبدأ – بالمناسبة – يُقرّه في مضمونه الإسلام، والدليل قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}؛ كما أن الليبرالية تشترط تأكيداً لهذا لاتجاه نفسه أن تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخر، وهذا أيضاً أقرّه الذكر الحكيم في قوله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}؛ بمعنى ألا يكون (الفرد) وصياً على اختيارات الآخرين إلا بما تقرّه القوانين. عداوة الصحويين لليبرالية سببها الحقيقي فيما أراه أنهم يسعون لوصاية حركاتهم السياسية المؤدلجة على المجتمعات، لذلك فهم يطرحون أيديولوجية ذات محددات وثوابت صارمة، تعمل لتمكينها من السيطرة على الفرد والمجتمع معاً، وسلب حريته منه، كأي حزب سياسي، لذلك شوّهوا كل الحلول التنموية الليبرالية، ليضعوا من أنفسهم الخيار الوحيد لتطبيق الإسلام؛ وكأنهم يقولون: إما نحن أو نار جهنم. إلى اللقاء نقلا عن الجزيرة
مشاركة :