تمر هذه الأيام ثماني سنوات على العاصفة التي مرت بعالمنا العربي، وقد ذهب البعض إلى تسميتها «الربيع العربي»، في محاولة غير موفقة للمحاكاة مع ربيع أوروبا الشرقية القريب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وإن كان أقرب تعبير وأنسبه لما حدث، أنه كان «تيهاً عربياً»، ضلت فيه بلدان وشعوب عن الطريق، وها هو حساب الحصاد يخبرنا كيف كانت بذور الحقل مغشوشة وغير أمينة.أكثر ما يؤلم القلب ويشاغب العقل مستدعياً مَلَكَة النقد والتفكير المعمق، هو أنه كيف للعالم العربي بعد مائة عام أو أزيد قليلاً من النهضة العربية الأولى، وتجلي وعود الصحوة العربية، لا يزال يراوح مكانه، وها هو يحاول البداية من جديد، غير أنها كانت بداية ممجوجة وغير وطنية بالمرة، إلا ما رحم ربك من دول استطاعت أن تقبض على جمر مستقبلها بأسنانها، ووقفت صفاً وسداً أمام الاختراقات الخارجية والعمالة الداخلية.كان ما جرى ربيعاً مغشوشاً، حصر الشعوب العربية بين مطرقة التدخلات الأجنبية بما تحمله من أجندات تتسق واستراتيجياتها، ولا تقيم وزناً بالمرة للمصالح والأهداف العربية، وسندان الأصوليات التي نمت في ظل رعاية قوى خارجية بعينها، لا تغيب عن ناظريّ المحلل والمحقق.هل بالفعل وقعنا في الفخ؟لا يمكن بالقطع أن نطلق على ما جرى تعبير «ثورات»، وفي الوقت ذاته نجافي وننافي الحقائق إن قلنا إن ما حدث لم تكن له جذور تاريخية، تتصل بحالة انسداد تاريخي ومجتمعي عربي طوال القرن المنصرم.الحق أن يقال لا أن يُعرف فقط، ومن هذا أننا فشلنا في الوصول إلى مصاف الدولة الوطنية الحديثة، وتمثلنا التحديثية التي تحاول تلميع وجه المجتمع بريشة مستعارة من الآخر، والحضارة لا تقوم بالاستعارة في الحال والاستقبال.سبعة عقود أو أكثر قليلاً منذ زمن الخلاص من الاستعمار الأجنبي، وعالمنا العربي محكوم بأقدار سيزيفية تتلاعب برحلة بحثه عن الحداثة والهوية والقوة الوطنية، ما ترجم على الأرض بصدام مستمر ومستقر بين تيارين: قومي وديني، ما جعل المنطقة العربية تخسر فرصة حقيقية للتغيير، ومكن الظلام من أن يلف العقول، والنيران تشتعل، والدماء تراق بين الهويات القاتلة والآيديولوجيات المتكلسة، من دون ضمان مستقبل أفضل للأجيال التالية.أثبتت السنوات الثماني المنصرمة أن خللاً جوهرياً لا يزال متمترساً في حنايا العقل العربي، ما تبدى بجلاء واضح في المقاربة مع شعوب أوروبا الشرقية، ذلك أنه رغم الكابوس الشيوعي الذي جثم على صدورها لعقود طوال، والستار الحديدي الذي ضرب من حولها، استطاعت العودة بسهولة ويسر إلى مسارات ومساقات الديمقراطية، ذلك لأن بناها التحتية كانت ساكنة الجينات، وقد طفت إلى السطح بزوال الضغوطات الخارجية، على العكس من شعوبنا التي تماهت كثيراً مع الأجنبي في متطلباته وتبعات العلاقات معه.جزئية أخرى أثبتتها سنوات التيه العربي الثماني المنصرمة، وإن كانت ليست بجديدة، إلا أنها تعززت للمرة المائة بعد الألف، وهي أن الغرب غير صادق وغير أمين في تعاطيه مع العالم العربي، ذلك أنه وإن قدر لمراكز دولية أوروبية وأميركية المساهمة بقدر فاعل في إذكاء نيران الديماغوجيات العربية لتغير أنظمتها، فإنه تركها تالياً على قارعة الطريق، ولم يسارع لدعمها كما فعل مع شعوب أوروبا مرتين؛ الأولى عبر مشروع مارشال في نهاية الحرب العالمية الثانية، من أجل إعادة بناء ما حطمته الحرب، والثانية لدى سقوط حائط برلين، حيث تلقت دول الكتلة الشرقية دعماً ضخماً من أميركا واليابان وكندا وأستراليا وألمانيا، عطفاً على المساهمات الفائقة الكرم من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبرامج الأمم المتحدة، أما العرب فقد كان مآلهم مخيمات اللاجئين مهانين ومطروحين خارج أوطانهم، ومأزومين داخلها.الذكرى الثامنة الأليمة تفتح أعيننا على حتميات تاريخية، إن أردنا الخروج من ظلاميات الأصوليات وضيق الآيديولوجيات وعبور الطريق إلى رحابة التنوير.في المقدمة منها التسليم بأن عصور الآيديولوجيات الاستلابية قد ولَّى إلى غير رجعة، وأن الشعوب قادرة على عيش التنوير، وإعمال العقل في النقل، وعدم التمترس وراء تفسير النصوص الدينية والإيمانية بصورة مجتزأة، تنافي وتجافي صحيح الدين وسماحته.وبينها كذلك الاعتراف بأن أزمنة المراهقة الفكرية التي تولد ثورات تاريخية لا تجلب إلا النار والدمار قد انتهت، وبأن الثورات الديمقراطية تجمع ولا تفرق وتشرح ولا تجرح.وثالثاً، لا بد للشعوب العربية من التقدم الحثيث الذي يأخذ بأياديها خارج أطر الطفولات العقلية إلى المسؤوليات الحقيقية.تبدأ الحرية حين ينتهي الجهل؛ لأن منح الحرية لجاهل كمنح سلاح لمجنون، كما يعلمنا أديب فرنسا الكبير فيكتور هوغو.الخلاصة: «ليس بالهدم، وإنما بالتطوير والوئام يكون الخلاص والعدل، فالعنف يهدم دائماً ولا يبني أبداً، يثير مشاعر الهلع ولا يهدئها مطلقاً، يقذف دائماً بالبشر إلى الضرورة القاسية، التي تجعلهم بعد المحن الأليمة، يسيرون على أنقاض الفتنة لإعادة البناء بصعوبة بالغة».
مشاركة :