واس- مكة المكرمة: أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام، الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس، المسلمين بتقوى الله عز وجل في السر والعلن والابتعاد عن معاصيه، حاثاً على شكر الله عز وجل على نعمة الإسلام والفضل بين الأمم، وأكد أن البيعة علاقة عقدية تعبدية تقوم على ركيزة إعلاء مصالح الدين ورفع صرح الشريعة. وقال السديس في خطبة الجمعة بالمسجد الحرام اليوم: أيها المسلمون لقد قصدت شريعتنا الغراء، تحقيق أعظم المصالح وأسمى المقاصد، وتزكية النفوس دون البوائق والمفاسد؛ فهي خاتمة الرسالات ومجمع لبابها، وأوعبها لقضايا الحياة وآرابها؛ لأنها الرسالة المباركة الميمونة، التي انطوت التطور والمرونة، واتسمت بمواكبة أحداث العصور ومستجداتها، واستيعاب القضايا ومتغيراتها، قال سبحانه: ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وأضاف: إن من عظيم محامدها إدلاجها في استصلاح أحوال الناس في المعاش والمعاد، مستجلبة لهم أكبر المصالح والخيرات، وأعظم الهدايات والمبرات، واهتمامها الحثيث، بتحصيل بوارق الحق الذي لا يبور، ودفع المساخط عنهم والشرور. وأردف: من القضايا الجوهرية التي أولاها التشريع المنزلة السامية المنيعة، وبوأها من التحقيق الصدارة والطليعة، قضية الحكم والإمامة، وسياسة الرعية بالشريعة الماجدة، ومنهج الخلافة الراشدة. وتابع خطيب الحرم: لو لم يكن للناس إمام مطاع؛ لانثلمت شرائع الإسلام، ولتعطلت الأحكام، وفسد أمر الأنام، وضاعت الأيتام، ولم يحج البيت الحرام، قال الإمام أحمد: (الفتنة، إذا لم يكن ثَمّ إمام يقوم بأمر الناس)، وقال الإمام الماوردي: (الإمامة أصل، عليه استقرّت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة؛ حتى استتبت به الأمور العامة والخاصة)؛ من أجل ذلك كانت قضية التشريع الإسلامي، وإقامة الإمامة والولاية على رأس القضايا التي عُنِيَ بها هذا الدين، وأرسى أسسها سيد المرسلين؛ حيث قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم) رواه أبو داود بسند صحيح، وقال ربنا في محكم التنزيل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، قال الإمام ابن تيمية: ( نزلت هذه الآية في الرعية، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر؛ إلا أن يأمروا بمعصية الله). وقال الشيخ السديس: على هذا المنهج القويم سار الصحابة؛ حيث اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة وبايعوا أبا بكر الصديق قبل تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يبيتوا ليلتهم -مع جلل المصاب وعظم الفادحة- إلا وفي أعناقهم بيعة لإمام، واستخلف الصديق عمر، وجعلها عمر في ستة من أصحاب النبي؛ فبايعت الأمة عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. وأضاف: بيعة الإمام تعني العهد على الطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعدم منازعة الأمر أهله، وهي واجبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله}، قال أهل العلم: (وهذه الآية وإن كانت نزلت في بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن البيعة لمن بعده من ولاة أمر المسلمين داخلة في عمومها، وهذه الآية الكريمة نص في وجوب البيعة وتحريم نقضها ونكثها)، قال سبحانه: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً}، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم في صحيحه: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، وفي حديث عبادة بن الصامت: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله) رواه مسلم. وأردف خطيب الحرم: البيعة قررتها الشريعة وأوجبتها نصوص الكتاب والسنة؛ فهي أصل من أصول الديانة، ومَعلم من معالم الملة، يوجب الشرع التزامها والوفاء بها؛، لأنها أصل عَقَدي وواجب شرعي، يقول الإمام النووي: (وتنعقد الإمامة بالبيعة)، ويقول العلامة الكرماني: (المبايعة على الإسلام عبارة عن المعاقدة والمعاهدة عليه)، إنها لُحمة على السمع والطاعة تنص، وعلى الإجلال والمحبة تحض وتخص. وتابع: إنها علاقة عقدية تعبدية تقوم على ركيزة إعلاء مصالح الدين ورفع صرح الشريعة، وإعلاء راية الحسبة، وتتجافى عن المصالح الذاتية، والمطامع الشخصية، والحب المزعوم، والمديح الكاذب، والإطراء المزيف، والاقتيات على فتات موائد الأحداث. وقال إمام وخطيب المسجد الحرام: للبيعة واجبات، ومسؤوليات وتبعات؛ أهمها وأولاها: السمع والطاعة في غير معصية؛ ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره؛ إلا أن يؤمر بمعصية أخرجه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم) رواه مسلم. وثانيها: حفظ هيبة الأئمة ومكانتهم، روى الترمذي في سننه وأحمد بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله)، وقال الإمام القرافي: (ضبط المصالح العامة واجب، ولا ينضبط إلا بهيبة الأئمة في نفوس الرعية، ومتى اختُلف عليهم أو أُهينوا تعذرت المصلحة)، وقال الماوردي: (لا بد أن يكون للإمام عظيم الهيبة). وثالثها: المناصحة بالضوابط الشرعية دون تشنيع؛ ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، قال الإمام الشوكاني: (ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل، أن يناصحه، ولا يُظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد؛ بل يأخذ بيده ويخلو به، ويبذل له النصيحة). وأضاف: من ظن أن النقد لأهل الحل والعقد، والعلماء والدعاة، ورجال الخير والحسبة، على هذا المنوال؛ فقد جانَبَ الصواب، وأبعد النجعة، وعيْنُ النصيحة نبذ ذلك؛ لإفضائه بتماسك الأمة وترابطها، إلى يباب الفُرقة، ورعونات الأهواء، ولخلوصه إلى انتقاص مَن جاء الشرع برعاية حقوقهم وحفظ هيبتهم وأردف السديس: من نَبْوَات الأفهام، وكبوات الأقدام، في كثير من المجتمعات، ولدى كثير من الفئام والأطياف، أن التغيير والإصلاح كامن في المروق والإيجاف، والصولة والإرجاف، دون تبصر في النتائج ونظر في العواقب، وتنوّر للمآلات بفهم حصيف ثاقب، أو أنه يكمن في التنصل من الدين والتميع في تطبيق الشريعة، وتقديم التنازلات تلو التنازلات، والانفلات من الثوابت والمبادئ والقيم، والانسياق وراء الانفتاح غير المنضبط دون مراعاة لخصوصية الأمة المسلمة، يقول الإمام ابن القيم: (الإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر). وأشار إلى أن رابع واجبات البيعة والولاء، الدعاء لهم، قال الإمام أحمد رحمه الله: (لو أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للإمام. وخامسها التعاون معهم، وتأليف القلوب لهم، وعدم تأليب العامة عليهم؛ لتنتظم مصالح الدين والدنيا. وقال: لا ريب أن عليهم تجاه شعوبهم أداء الأمانة، وتحقيق العدل، وتحكيم الشرع، ونصرة المظلوم، ورعاية مصالح المسلمين. وأضاف: إنها لقضية أوجب التذكير بها ندّ الفهم، وغلبة الوهم، واقتضت ألفة الجماعة سبر أغوارها، وتجلية أخبارها؛ لا سيما في عالم يموج بالتحديات والصراعات، ويعج بالمشكلات والأزمات، وتعصف به التيارات والانتماءات والولاءات، لجهات وتنظيمات ضالة، تسلك سبيل الغلو والعنف والإرهاب، والتطرف والبغي والإرعاب، تسفك الدماء، وتبعثر الأشلاء، وتسعى للفساد في الأرض قتلاً وتحريقاً، بغياً وتفريقاً باسم الإسلام، وبكل وحشية وبربرية تجاوزت الحدود الشرعية والأخلاقية، ولا يقرها دين ولا قيم ولا إنسانية. وأردف: لقد ثبت في الصحيح أنه: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) رواه البخاري؛ فاللهم إنا نبرأ إليك من شناعة فعل هؤلاء الخوارج، والأدهى في ذلك اعتمادهم على المتشابه من النصوص، والاستدلال بالأحاديث الضعيفة والمنسوخة، واجتزاؤهم نصوص أهل العلم ونقولاتهم، وسلبها عن سياقاتها الصحيحة؛ فعلى شباب الأمة الفُطَناء ألا يغتروا وينخدعوا بهذه الشناعات التي تشوّه صورة الإسلام الحنيف، ومبادئه السمحة، ووسطيته واعتداله، وألا يركنوا للشائعات المغرضة؛ فالإسلام دين العفو والرحمة والتسامح، بريء منها كل البراءة. وتابع: ألا ما أجدر الأمة الإسلامية اليوم وهي تبحث عن مخرج لِمَا بُلِيَت به من فتن وما مُنِيَت به من محن، أن تترسم خطى رسولها محمد صلى الله عليه وسلم في تطبيق هذا المبدأ العظيم في الولاء وصدق الانتماء، وتسارع بمبايعة إمامها الحق على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا تنازعه الأمر الذي هو أهله وأحق به. وقال خطيب الحرم: من شكر النعماء والتحدث بالآلاء، ما تعيشه هذه الديار المباركة -لا تزال بحراسة الله مسورة وبالإسلام منورة- من التئام سلطان الشرع والعلم والكياسة، بسلطان الحكم والملك والسياسة، في مظهر فريد ونسيج متميز، ومنظومة متألقة من اجتماع الكلمة ووحدة الصف والتفاف الأمة حول قيادتها، ومبادرة للبيعة الشرعية على الكتاب والسنة، بسلاسة وانسيابية ويُسر وتلقائية، قل أن يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً، في عالم يموج بالتحولات والاضطرابات وكثرة النوازل والمتغيرات، في نهج محكم منذ تأسيسها، بقبلة المسلمين ومهبط الوحي ومنبع الرسالة؛ فبوأها المكانة الكبرى في العالم الإسلامي، والمركز القيادي والثقل العالمي الذي تتطلع إليه الأمة؛ مما جعلها نموذجاً يحتذى في العالم، بالأمن والاستقرار والتوازن والاعتدال، والجمع بين الأصالة والمعاصرة، ولا عزاء للمغرضين والمزايدين. واختتم بقوله: نؤكد ذلك تحدثاً بنعم الله وتذكيراً بآلائه؛ فلله الحمد والمنة، وبهذه المناسبة فإننا نجدد البيعة الشرعية لولاة أمرنا -وفقهم الله- على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بيعة شرعية مخلصة وولاء صادقاً على السمع والطاعة بالمعروف في العسر واليسر والمنشط والمكره؛ امتثالاً لأمر الله عز وجل واستناناً بسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ سائلين الله لهم العون والتأييد، والتوفيق والتسديد، إنه سميع مجيب.
مشاركة :