لطالما أحببت أن أظل شاباً، وما زلت كذلك. لأنني أعتقد أنني ما زلت كذلك. ثمة الكثير من الاعتراضات الفيزيائية على هذه الفكرة، لكن ما يدهشني بحق هو أنني كنت في الخامسة والثلاثين من عمري حين كنتُ مأخوذاً بشعور أكبر من عمري: تبدو الفكرة أنيقة ودنيوية، أن ترغم نفسك على الإقامة في زمنٍ واحدٍ، في ما يعطيه، وما يحطمه، وما يبقيه فيك من أثر. وها هو الزمن هنا والآن، لا يشبهه شيءٌ أبدًا: دافئٌ قليلاً ربما، باردٌ قليلاً، لكنه في كل الأحوال ينتظرُ حياتي لتملأه. وفي ذات الوقت هو هنا، يعيشُ في الضوء وينصت للموسيقى وهي تطوف صالة بيتي كل مساء. إنه شيءٌ لا يمكنك أن تدركه إلا حين يأتي على هيئة استذكار. بعد سنواتٍ طوال، حين تكون الأشياء التي ملأته في لحظتها قد ذهبت واختفت، واستحالت ندماً وصوراً، وتركتكَ وحيداً في حاضرٍ أبدي، حيث بدأ في حجرة ليس من السهل وصفها. تجده في نفسك: كل الطرق التي أتت بالمُحال إلى الواقع هي الآن محضُ قصصٍ لا أكثر، قصص لم تعد تفضي إلى أي شيء، كل هذا القفر الذي سلكته في طريقها هي محضُ حيز خلف باب مرت من خلاله جُملة، جملة استدلت على طريقها بخارطة من القلب. وعلى طول الطريق، تتحول الذات التي وُلدتَ بها إلى الذات التي خلقتَها، لكنهما تلتقيان في نهاية الأمر، يتوحدان في الذاكرة حيث بدأ الزمن: رنينُ الجرس على بوابة حديقة كومبراي، صوتُ مسمارٍ يُنتزع من حديقة خلفية في لوس أنجليس، أو صوتٌ ملائكي ناصع في نوفا سكوتيا، أياً كان العمر الذي تستحضره. التعميمات التي أحببتها في الخامسة والثلاثين ليست هي ما يثير مشاعري الآن. ما يثيرني الآن هي لحظاتٌ بعينها حين أرى حياتي تحت الضوء، حين أرى مشاعر السنين تستعيد عمرها. يتوقف الزمن، ثم يستأنف حكايته، كقطارٍ يتجه إلى بعلبك، أو باخرة تعبر نحو البرازيل. انتقلنا إلى سان دييغو، ثم مضيتُ أنا شرقاً، وحطت بي الرحال في وسط البلاد حيث بقيت أنتظر أربعين عاماً أو ما يقرب، أعبرُ حركات الدقائق وهي تنتقل من اللحظة إلى اللاشيء. أقرأ في ضوئها. لا أدري ما الذي يجعلني أعود للقراءة لهم دائماً.. إليزابيث بيشوب، بروست. القصص التي تتذكرها تشعرك بأنها كالمرايا، وإعادة قراءتها تشعرك بأنك تقلّب حياتك في زمنٍ ما، كما لو كانت السنوات مجرد صفحات. أحيا في الضوء تحت الباب، في انتظار تلك الأحاسيس الغامضة وهي تطفو وتغرق في غبش الوعي كالعطر، كرائحة العنبر والليلك. في المساء أقود دراجتي إلى الحديقة الغافية على بحيرة متشغن، أتراخى على المقعد وأقرأ «كونتري سانت بيوف» و«الزمن يولد من جديد». كتاب فيزياء يحاول إقناعنا أن الزمن حقيقي. تلك هي حياتي، ليس أكثر. تتهادى مع بعضها البعض: تلتئم هواجسها معاً، كالعالم الخاص لتجاربي وهي تحاول أن تصطف في سياق طبيعي يمتصّها، لكنه للحظة واحدة يسمح لها أن تعيش. تبدو كمعجزة.. هذه الحياة. الحياة التي تعدك بكل شيء، وتفي بوعودها حين تكون قد كبرت بما يكفي لتجاوزها، بما يكفي لتشعر بأنه لم يعد يهم. تبدو غير مهمة أول الأمر، ثم ومع مضي العمر تبدو كما لو كانت لا تمت للحقيقة بصلة، تلفيقاً من السنوات في رحم الكون، تتدفق فيه ثم ما تلبث أن تذوب في نهاية الأمر. لكنها رغم كل ذلك ستسمح لك أن تجلس على الكون مرة واحدة فقط: قرية في مساء صيفي، حديقة بعد الظلام، فناء خلفي صغير تحت سماء كاليفورنيا المضجرة. قلتُ إني كنت أشعر أنني يافع، وما زلت كذلك، لكن المعنى يراوغني. لعله الشعور بأن الماضي هو الحاضر، أو بأن الماضي قد مضى، أو بهما معاً في نفس الوقت. اغترابٌ طويل وخصوصية لا تشبه سواها. بكامل عافيتها وسط أجراسٍ ترن، ومسمار حديدي، رقص ملائكي نقي. صدى صوتٍ معدني واضح ضارب من الطفولة حيث بدأ الزمن: «آه أيها الصوت الجميل، اضرب مرةً أخرى!» ترجمة: سهام العريشي * جون كويث: شاعر أميركي له العديد من المجموعات الشعرية، يعمل أستاذاً للفلسفة، فلسفة اللغة، في جامعة ويسكونسن – ملواكي بالولايات المتحدة
مشاركة :