احتراق لم تكن تظن أنها ستقبض على بداية تحقيق الحلم، وضع حياتها المنغلق لا يسمح لها برفع عينيها إلى السماء، ولا التطلع نحو الأفق، في محكم أعرافهم قانون يحكم أن المرأة جوهرة تحفظ في صناديق الحفظ، وهي أيضا لؤلؤة يجب أن تبقى في صدفتها حماية لها، تتساقط هممها، وتترنح قوتها الجبارة، تتناثر أوراق أيامها الصفراء في صمت رهيب، تبعثر الأحرف، وتصنع الكلمة، وتبني المعاني، وتذروها في الفضاء تنادي العالم في تساؤل، علها تحظى بإجابة مقنعة تحيلها إلى الموت الأبدي، تجد العالم يضج تائها يبحث في قاع الزمن، منهم من يحل عقدة، ومنهم من يربط شريطا، ومن يملأ كأسا بلذيذ الشراب.. أرهقها البحث والانتظار، تماهت مع شطحات أمنياتها، تقاذفتها زفرات الأنين والحنين.. نثرت رماد صمتها الذي أحرقته الزفرات فوق سطح الماء، سرى مختلطا برائحة الزفر، والشوائب، والحشائش، وعبق الزهور.. حدثته موصية: يا فضائي.. يا قدري.. يا مياهي التي تشبعت بها شهقاتي، احملي رسائلي للبعيد عبر المساحات، واعزفي سيمفونية وجعي، لتصل لليد التي تحمل رمادا محترقا تذروه مع الرياح.. عله يعود يوما، يحمله السحاب غيثا، ويروي روحا قدمت نفسها قربانا في سماء المغتربين. *** من القراءة الأولى للقصة تشعر أن «مريم الحسن» مختلفة وصادقة. أما الاختلاف فيبدو واضحا من كلماتها ( في محكم أعرافهم قانون يحكم أن المرأة جوهرة تحفظ في صناديق الحفظ وهي أيضا لؤلؤة يجب أن تبقى في صدفتها حماية لها). فما وجه الاختلاف هنا؟ الاختلاف أنها لم تركب الموجة ــ موجة التمرد النسوي، فتشن حربا هوجاء على التقاليد والأعراف التي تكبل المرأة مثلما تفعل معظم الكاتبات، بل تبدو «مستسلمة» أو متماهية مع تلك التقاليد والأعراف رغم رفضها أو عدم قبولها لها، منذ البداية تتضح مدى ما آلت إليه حالتها الإنسانية من يأس وربما تسليم بالواقع، فحتى الحلم لم تكن تحلم. ربما هي نظرية «اليأس المكتسب» كما يعرفها علم النفس، والذي يجعلها تدخل حالة من الاستسلام للإحباط وعدم الرغبة في الخروج منه؟.. وربما لعلمها بقسوة التقاليد التي تكبلها وتتحكم فيها كامرأة؟ لكنها في كل الأحوال تضعك أمام أنثى قد أحسنت تربيتها، فهي تبدو ــ رغم رفضها المستتر وغير المعلن لتلك التقاليد ــ راضية بها، مستسلمة لها فيما يدلل على ذلك كلماتها وترديدها لمفردات مجتمعها عن المرأة، ووصفها بالجوهرة واللؤلؤة وعدم استهجانها ذلك. عمق المأساة هنا تعكسه كلماتها ( تترنح قوتها الجبارة )، تتناثر أوراق أيامها ( بعد زمني) الصفراء بما يوحي بالخريف وما يعكسه من علامات اليأس واقتراب النهاية. وهي تترك للمتلقي تخيل تلك المأساة، فهي لم تحدد مأساة بعينها Open ended reading، مما يجعل القارىء شريكا لها في الإبداع بخياله، ومما يفتح أمامه الباب أمام احتمالات عدة: هل هو الحرمان الأنثوي؟ هل هو وجع الفقد؟ هل هو رفض الواقع؟ أم أن ثمة احتمالات أخرى؟ إنها بهذا تبعد كل البعد عن المباشرة والخطابة، مما يعطي كلماتها مذاقا خاصا وأبعادا إضافية متخيلة ومتعددة. لكنها، وفي كل الأحوال، تبدو مختلفة عمن حولها. هي في واد وهم في وادٍ آخر (منهم من يحل عقدة ومنهم من يربط شريطا ومن يملأ كأسا بلذيذ الشراب)، وهذا يضيف إلى (مأساتها ) بعدا إضافيا وهو عدم المشاركة بل وعدم الإحساس من (الآخر ) الغارق في ملذاته وعالمه الخاص. «مريم الحسن» هنا كلماتها مركزة وهذه مزية كبيرة، تقتحم المعني فتحمله للقارئ دون «لف أو دوران» حوله، ورغم هذا أو ربما بسبب هذا جاء بعيدا عن المباشرة في الكلام، فجمعت القاصة بذلك بين حدي المعادلة الصعبة (بساطة الكلمة وعمقها في آن)، ومن ثم فهي لم تضع القارئ أو تفرض عليه حالة من التشتت مثلما يفعل كتاب آخرون لا يملكون أدواتهم. كما أن كلماتها تنطق بالصدق حتى ليشعر القارئ بمأساتها التي لم تحددها، يشعر القارئ بحيرتها وعذاباتها وإن لم يتعرف عليها، وهذا يحسب لها. الكاتبة هنا شعرت وأحست، فكتبت فجاءت كلماتها ــ على تركيزها وقصرها ــ حبلى بالمعاني وموحية، بينما يقرر غيرها الكتابة أولا ثم يبحث عن المعاني فتأتي كلماته مفتعلة وجمله مكرورة خالية من المعاني. الكتابة عند «مريم الحسن» نتيجة، بينما أحاسيسها الصادقة وأفكارها سبب، وهذا هو المطلوب من الكاتب والمبدع الذي لا يذهب لمقابلة الإبداع في منتصف الطريق. النهاية ــ نهاية قصتها ــ تبدو «مريم الحسن» وكأنها قد مارست نوعا من «التطهير» بالكتابة، خفف عنها عبئا تحمله وتئن تحت وطأته، فعاودها الأمل من جديد، أو بصيص منه، فجعلت تنادي الفضاء (خرجت من قوقعة الكآبة والوجع إلى رحابة الفضاء).. يا قدري (خرجت من ظلمات اليأس والاستكانة إلى نور الإيمان واليقين بالقدر).. يا مياهي (خرجت من صحراء الجدب القاحلة الفقيرة إلى عذوبة المياه وامتدادها).. وكأنها قد سحبت القارئ من يده لتجلسه على الشاطئ في نقلة نوعية مفاجئة لكنها غير مربكة.. البعيد.. عبر المسافات ــ كلها كلمات موحية ــ بالأمل، بالرحابة، بالحياة تدب من جديد.. وفجأة وبقوة لا يزال بالقلب نبض، ولا يزال بالنفس أمل. (اعزفي سيمفونية وجعي)!! هل هي استعذاب للوجع والألم؟ إنها تعود بالقارئ من جديد إلى الوجع، إلى المأساة. فهل هي «البجعة» التي تغرد أجمل أغانيها عند الموت؟ عند الرحيل؟ عند النهاية؟ *** (عله) يعود يوما!! تضع القارئ في حيرة مرة أخرى! هل هو «صاحب اليد التي تحمل رمادا محترقا»؟ هل هو ــ صاحب اليد هذا ــ هو صانع مأساتها؟ أم أنها تقصد أن الذي يعود هو ذلك الرماد المحترق؟ كأنه العنقاء تنهض من جديد كلما ماتت؟ لكن قواعد اللغة العربية تعلمنا أن «الهاء» هنا تعود على الرماد.. فهل ألحتْ على «مريم الحسن» تلك الفكرة ــ ولو بـ«اللاوعي» ــ المنتشرة في ثقافات الشرق والمتمثلة في حرق الجثامين؟ أم ألحت عليها فكرة «تناسخ الأرواح»؟ أيا ما تقصد، فقد أنهت، قصتها بالأمل ــ ولو على استحياء ــ «عله» يعود يوما بالتمني، ولم تقل «ليت» بما يفيد إمكانية تحقق الأمل.. و«السحاب» الدال على السمو. و«الغيث».. (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته). لكنها ــ القاصة ــ دائما وأبدا تضحي. لقد بدأت قصتها بالتضحية ــ استسلامها لأعراف القبيلة وعدم تمردها عليه ــ ثم أنهتها بــ«قدمت نفسها قربانا»! يا لها من امرأة! تحترق لتستحيل رمادا، ينثر الرماد فيحمله السحاب غيثا، فيروي الغيث، روحا، تقدم نفسها قربانا من جديد.. وهكذا Closed ــ cycle دورة حياة متكاملة تحملها كلمات قصة قصيرة لكاتبة كبيرة وقديرة! * كاتب وناقد مصري
مشاركة :