لكي نفهم حيثيات الحوارات الإسلامية - المسيحية وأسبابها ينبغي أن نموضعها داخل سياقها التاريخي. كانت نقطة الانطلاقة الأولى قد ابتدأت بعد عام 1965، تاريخ نهاية انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني الشهير. فهذا المجمع الذي انعقد على مدار ثلاث سنوات متتالية بين عامي 1962 و1965 كان قد اتخذ قرارات لاهوتية ثورية غير مسبوقة في تاريخ المسيحية بنسختها الكاثوليكية البابوية الرومانية. إنها قرارات تاريخية بكل ما للكلمة من معنى. إنها قرارات تحريرية. فلماذا نقول ذلك؟ قطع مجمع الفاتيكان الثاني مع الثوابت اللاهوتية القروسطية القديمة الراسخة. وهي ثوابت تكفر جميع الأديان الأخرى، بل وجميع المذاهب المسيحية الأخرى، ما عدا المذهب الكاثوليكي البابوي بطبيعة الحال. فقد كانت الفتوى اللاهوتية الشهيرة تقول ما معناه: خارج الكنيسة المسيحية الكاثوليكية البابوية لا مرضاة عند الرب ولا نجاة في الدار الآخرة. وهذا يعني تكفيراً واضحاً وقاطعاً مانعاً لجميع الأديان والمذاهب الأخرى ومن بينها الإسلام واليهودية والبوذية والهندوسية، بالإضافة إلى المذهبين المسيحيين الآخرين البروتستانتي والأرثوذكسي. هذه الفتوى اللاهوتية ظلت مسيطرة على عقلية الكنيسة والبابوات طيلة 1500 سنة. وفجأة يجيء مجمع الفاتيكان الثاني المذكور لكي يقطع معها أو يتخلى عنها. كيف حصل ذلك؟ كيف لم تسقط السماء على الأرض إذا حصل ما حصل؟ هل يمكن أن تتخلى عن عقيدة إيمانية راسخة رسوخ الجبال؟ نعم يمكن. ومع ذلك يقول لك البعض: يا أخي هذه من ثوابت الدين ولا يمكن المس بها. ولكن مجمع الفاتيكان الثاني تجرأ على المس بها والتخلي عنها. ومن هنا الطابع التجديدي بل والثوري لهذا المجمع اللاهوتي الذي شاركت فيه أكثر من ثلاثة آلاف شخصية من مختلف الأقطار المسيحية. بل وشارك فيه فلاسفة علمانيون كبار من أمثال بول ريكور. وعلى هذا النحو تصالحت الكنيسة الكاثوليكية البابوية مع الحداثة بعد أن قاومتها وصارعتها زمناً طويلاً. هل تريدون دليلاً على هذه الثورة اللاهوتية الكبرى؟ إليكم هو. لقد تخلى الفاتيكان عن كره المسلمين وفتح لهم صدره للمرة الأولى في تاريخ المسيحية. وأصدر القرارات التالية التي لا تكاد تصدق: «أن مخطط النجاة في الدار الآخرة يشمل أيضاً كل أولئك الذين يعترفون بوجود الخالق وفي مقدمتهم المسلمون. وذلك لأنهم يعلنون امتلاك إيمان إبراهيم الخليل ويعبدون معنا ذات الإله الواحد الأحد، الرحمن الرحيم، الذي يحكم بين الناس يوم القيامة». ثم يضيف البيان الشهير قائلاً: «إن الكنيسة المسيحية تنظر إلى المسلمين نظرة تقدير واحترام لأنهم يعبدون مثلنا الله الواحد، الحي الباقي، الرحمن والجبار، خالق السماوات والأرض، الذي تكلم إلى البشر من خلال أنبيائه». لا مبرر للقطيعة ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أن الفاتيكان تخلى عن لاهوت التكفير وتبنى لاهوت التنوير. وهذا فرق بين السماء والأرض. بدءاً من تلك اللحظة تصالحت المسيحية مع الحداثة، مع روح الأزمنة الحديثة. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح الحوار الإسلامي- المسيحي ممكناً. فبعد أن غيّرت الكنيسة موقفها لم يعد هناك أي مبرر للقطيعة بين الطرفين. ولكن هل تعتقدون أن رجال الدين وحدهم هم الذين قاموا بهذه الثورة اللاهوتية؟ هل تعتقدون أنه كان من السهل عليهم أن يتخلوا عن لاهوت التكفير العدائي تجاه المسلمين؟ أبداً لا. وهنا يقول لنا الأب ميشيل لولونغ ما فحواه: لقد لعب المستشرق الشهير لويس ماسينيون دوراً كبيراً في انفتاح البابا والفاتيكان على الإسلام والمسلمين. ومعلوم أنه كان محباً لتراثنا الديني وله صداقات واسعة مع كبار رجال الدين والمثقفين المسلمين مشرقاً ومغرباً. وذات الشيء ينطبق على تلميذه جاك بيرك. وماسينيون هو الذي نصح البابا بولس السادس بالانفتاح على الإسلام وتغيير النظرة التقليدية السلبية. ولكنه لم يكن الوحيد. فقد لعب ذات الدور المستشرق الكبير الآخر لويس غارديه صديق محمد أركون ومؤلف كتاب مشترك معه. وهو من كبار العارفين بالتراث الإسلامي. نذكر من بين مؤلفاته: «مدخل إلى اللاهوت الإسلامي»، و«الفكر الديني عند ابن سينا»، و«الإسلام: دين وأمة»، و«شخصيات الإسلام الكبرى»، و«الإسلام بين الأمس والغد» (بالاشتراك مع محمد أركون).. إلخ. ولعبت أيضاً المستشرقة دنيز ماسون دوراً في انفتاح الفاتيكان على الإسلام والمسلمين. وهي أيضاً مشهورة بكتب أصبحت مراجع لكل الباحثين ولا يمكن الاستغناء عنها. نذكر من بينها: «القرآن والوحي اليهودي - المسيحي»، و«الطرق الثلاثة لدين التوحيد»، و«التوحيد القرآني والتوحيد التوراتي».. إلخ. وقد عاشت هذه الباحثة الفرنسية الكبيرة الستين سنة الأخيرة من عمرها المديد في مدينة مراكش (عاشت 93 سنة). ولذلك دعيت بسيدة مراكش. ولا ينبغي أن ننسى الدور الكبير الذي لعبه المفكرون المسيحيون العرب وكذلك رجال الدين في انفتاح الفاتيكان على الإسلام. فقد قالوا للبابا ما فحواه: نحن نعيش مع الإسلام يومياً في لبنان ومصر والعراق وسوريا وفلسطين.. وتالياً لا ينبغي أن تتجاهلوا الإسلام بعد اليوم يا قداسة البابا. على أي حال كل ذلك لعب دوره في انطلاقة الحوارات الإسلامية - المسيحية، بدءاً من سبعينيات القرن الماضي. وكان أول لقاء كبير بين الطرفين قد حصل في برمانا الساحرة في لبنان: بلد الجمال وتلاقي الحضارات وسويسرا الشرق الأوسط. وقد جمع هذا المؤتمر 46 شخصية من إسلامية ومسيحية ينتمون إلى عشرين بلداً مختلفاً. وخرجوا بنتائج ومقررات تستحق التنويه والتقدير. وكان مما جاء فيها: في الماضي كانت الخصومة هي السائدة بيننا ولكننا اليوم مصممون على تجاوزها. لقد قررنا إقامة علاقات إيجابية وودية فيما بيننا. فنحن جميعاً عباد الله، سواء أكنا مسلمين أم مسيحيين. ونحن جميعاً نبحث عن العدالة والسلام في هذا العالم. ولكن الحوار بيننا أو حتى التقارب لا يعني محو الاختلافات، وإنما يهدف إلى استكشافها من جديد بكل صراحة ووضوح ودون مجاملات سطحية ونفاقات. بين تونس وليبيا بعد مؤتمر برمانا هذا جرت عشرات اللقاءات والحوارات الإسلامية - المسيحية في شتى أصقاع العالم. وقد تم ذلك إما بمبادرة من قبل المسلمين، وإما بمبادرة من قبل المسيحيين. ومن أهم هذه المؤتمرات من دون شك ذلك المؤتمر الكبير الذي عقد في منطقة قرطاج - الحمامات - القيروان بتونس الخضراء بين 11–17 نوفمبر 1974. وقد نظم المؤتمر مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية في جامعة تونس. وكان عنوانه العريض: «الوعي الإسلامي والوعي المسيحي في مواجهة تحديات التنمية». ولكن المؤتمر الأكبر والأضخم كان قد انعقد في العاصمة الليبية طرابلس الغرب في شهر فبراير عام 1976. وقد تعرض لانتقادات كثيرة، نظراً لشخصية العقيد القذافي وشطحاته، ولكن المراقبين الموضوعيين اعترفوا بأهميته وجدواه. هذا ما صرح به الأب ميشيل لولونغ أحد كبار الاختصاصيين بالحوارات الإسلامية - المسيحية. فقد أمضى أكثر من عشرين سنة من عمره في المغرب مكرساً حياته لتحسين العلاقات بين المسلمين والمسيحيين. فماذا قال عن مؤتمر طرابلس بليبيا؟ قال ما فحواه: على الرغم من كل الانتقادات التي تعرض لها هذا المؤتمر، فإنه حصل فيه شيء إيجابي جداً. فمن مواضيعه المهمة كان الموضوع التالي: استكشاف الإرث المشترك الجامع بين التراث الإسلامي والتراث المسيحي. ثم درس المؤتمرون وهم من كبار الشخصيات الدينية والثقافية الموضوع التالي: كيف يمكن أن نلغي الأحكام السلبية المسبقة التي تفصل بيننا؟ كيف يمكن تجاوز اللعنات والإدانات اللاهوتية المتبادلة على مدار العصور؟ بمعنى آخر: كيف يمكن أن نخرج من عقلية الإقصاء والنبذ المتبادل التي سادت العصور الوسطى الإسلامية كما المسيحية؟ أليست هذه إنجازات يا ترى؟ إن مجرد طرح هذه الأسئلة بكل جرأة ووضوح وبحضور شخصيات إسلامية ومسيحية وازنة يعتبر تقدماً كبيراً إلى الأمام. وينبغي العلم بأن المؤتمر كان ضخماً جداً لأن عدد الشخصيات المشاركة بلغ الأربعمئة شخص! وقد وفدوا إلى العاصمة الليبية من شتى أقطار الأرض. إن مجرد جمع هذه الشخصيات في مكان واحد أو قاعة واحدة يعتبر إنجازاً ما بعده إنجاز. واللافت في مؤتمر طرابلس الغرب أنه صرح بما يلي: لا ينبغي على الحضور مستقبلاً أن يقتصر علينا وحدنا من مسلمين ومسيحيين. وإنما ينبغي أن يشمل ممثلي الأديان الأخرى وبخاصة اليهود الذين ينتمون مثلنا إلى الديانة الإبراهيمية التوحيدية. ولكن ينبغي أن يفتح أحضانه أيضاً لممثلي الأديان الأخرى غير الإبراهيمية وغير التوحيدية كالبوذيين والهندوسيين وسواهم. هذا النقص تحاشاه مؤتمر أبوظبي الكبير الذي انعقد مؤخراً تحت عنوان: حلف الفضول: فرصة للسلم العالمي. فقد كان مؤتمراً عالمياً حضره إلى جانب المسلمين والمسيحيين ممثلون عن الديانة اليهودية وبقية الأديان. ولا ينبغي أن ننسى أهمية الزيارات المتبادلة التي تحصل دورياً بين المفكرين المسلمين والمفكرين المسيحيين. فالشخصيات الإسلامية تزور روما عاصمة الكاثوليكية وجنيف عاصمة البروتستانتية من وقت لآخر. وتحصل عندئذ حوارات شخصية جانبية بالإضافة إلى الحوارات الرسمية الجماعية. وبالمقابل فإن الشخصيات المسيحية أصبحت تتردد بكثرة على عواصم العرب المنفتحة على الحوار الحضاري، كالقاهرة وبيروت وأبوظبي والرباط وسواها. وعندئذ تحصل لقاءات وتعارفات وجهاً لوجه بين الشخصيات المسيحية والشخصيات الإسلامية. وكل ذلك حصل على مدار العقود السابقة منذ السبعينيات والثمانينيات وحتى اليوم. مكارم الأخلاق لكن لنعد إلى الوراء قليلاً، إلى سنوات الثمانينيات من القرن المنصرم. فقمة اللقاءات الإسلامية المسيحية كانت قد حصلت في الدار البيضاء عام 1985 عندما زارها البابا يوحنا بولس الثاني وألقى خطاباً كبيراً أمام ثمانين ألف شخص من الشبيبة المغربية والشخصيات المحتشدة في ملعب محمد الخامس. وقد استقبله عندئذ العاهل الراحل الحسن الثاني بهذه الكلمات: إن ذات الهدف والهم يسكننا يا قداسة البابا. وهذا الهدف يكمن في ترسيخ علاقات الصداقة والتعاون بين جميع الأمم والأديان وتقويتها. ثم رد عليه البابا عندما قال في خطابه الشهير الذي لفت الأنظار: لنتفق على ما هو مشترك بيننا: الإيمان بالله، واحترام الكرامة الإنسانية، وخدمة البشرية. هذا هو الشيء الأساسي، والباقي تفاصيل. ومعلوم أن يوحنا بولس الثاني بولوني الأصل كان أول بابا يدخل إلى جامع إسلامي. وقد حصل ذلك في دمشق وفي جامع الأمويين الشهير بالذات. وكان أول من قبَل نسخة من المصحف الشريف. ثم دعا البابا ممثلي الإسلام إلى مؤتمر مدينة أسيزي في إيطاليا، بالإضافة إلى ممثلي جميع الأديان الكبرى، وصلّوا جميعاً من أجل سلام البشرية. وكان ذلك عام 1986. وبالمناسبة فإن البابا فرنسيس سوف يزور المغرب بعد الإمارات بفترة قصيرة. وسوف يستقبله الملك محمد السادس بتاريخ 30-31 مارس القادم. ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أنه «لا سلام في العالم من دون سلام بين الأديان». وهو الشعار الشهير الذي كان قد طرحه عالم اللاهوت السويسري التنويري الكبير هانز كونغ. ثم أضاف: ولكن لا سلام بين الأديان من دون حوار بين الأديان. وهذا الحوار ممكن لأن جميع الأديان الكبرى من إسلام ومسيحية ويهودية وبوذية وهندوسية وصينية كونفشيوسية تدعو إلى مكارم الأخلاق.
مشاركة :