من التكفير إلى التنوير، المعبر سالك والسالكون قليلون بقلم: سعيد ناشيد

  • 5/1/2017
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

ليست الشجاعة أن تكون تكفيريا فيهابك الناس. لكن الشجاعة عندما تكون أنت من يواجه حملات التكفيريين بقلب شجاع وعقل مؤمن بعدالة القضية.العرب سعيد ناشيد [نُشر في 2017/05/01، العدد: 10619، ص(8)] تقول القاعدة الشائعة: النّادر لا حكم له. غير أن قواعد الاقتصاد لها رأي آخر، الأشياء النادرة-بحكم ندرتها- تصبح باهظة الكلفة، ونفيسة الثمن. وبقدر ندرتها يرتفع ثمنها. ثم يصبح البحث عنها والاقتران بها مطلبا من مطالب الفخر والاعتزاز. في كل الأحوال، من النادر أن يقوم شيخ من شيوخ السلفية الجهادية بمراجعة فكريّة جدية وجذريّة؛ فهذا الأمر لا يحدث إلاّ نادرا. لذلك يرقى الأمر إلى مستوى الحدث عندما يحدث. نتحدّث عن حدث نادر بالفعل، لكنّه ليس النّادر الذي لا حكم له كما يقول الفقهاء، بل هو النّادر النّفيس على وجه التّحديد. إن كان الصديق العزيز الأستاذ محمد عبدالوهاب رفيقي (أبوحفص) يعدّ الشخص الوحيد ضمن أشهر شيوخ السلفية الجهادية بالمغرب الذي قام بمراجعة فكرية جدية وجذرية، فعلينا ألا نغفل عن أنّ المراجعة في هذا المضمار ثمرة تحوُّل ملحمي “دراماتيكي” ونادر الحدوث أيضا، لأنّه يعني، بكل وضوح، القدرة على التنازل عن الغنائم السهلة والزّعامة المكللة، وإنجاز تغيير جذري في نمط العيش وأسلوب الحياة برمتهما. فعلا، فإن التحولات الملحمية لا ينجزها إلا النادرون. لذلك -لكل ذلك- سيكون الشيخ أبوحفص مكسبا كبيرا للفكر التنويري المغـربي. وهذا بالـذات ما يغيض سائر شيوخ السلفية التكفيرية ممن تكالبوا عليه هذه الأيام. بل أخرجوه من الملة، وأهدروا دمه. ليست الشّجاعة أن تكون تكفيريا فيهابك النّاس. لكن الشجاعة عندما تكون أنت من يواجه حملات التكفيريين بقلب شجاع وعقل مؤمن بعدالة القضيّة. تلك هي الشجاعة التي تسم اليوم أبوحفص، والذي كان شيخا تكفيريا فصار عدوّ التكفيريين، بل عدوّهم الأوّل. أمضى محمد عبدالوهاب رفيقي (أبوحفص) زهرة شبابه شيخا مشهورا من شيوخ السلفية الجهادية بالمغرب، بل لعله كان الوجه الأكثر شهرة. كان يؤمّ ويحاضر ويدعو ويعظ ويتحلّق حوله المئات، بل الآلاف من المريدين والتابعين. قبل ذلك أمضى طفولته في حفظ القرآن ودروس الفقه في التعليم التقليدي، وذلك بالموازاة مع استكماله للتعليم العصري، مثلما شاء له والده. ثم أمضى ما يقارب عشر سنوات في السجن، عقب موجة الاعتقالات العشوائية في سياق تداعيات أحداث 16 مايو 2003. لكنه من القلائل الذين استغلوا سنوات الاعتقال في القراءة والبحث والمعرفة. كان يقرأ كل ما يقع بين يديه دون أي توجيه من أي أحد، كما يحبّ أن يؤكد. وفعلا، لا شك أن سجوننا تخلو من أي جهد تنويري أو تثقيفي ولو في الحدود الدنيا، عدا لقاءات شبه رسمية جامدة لا تحرك ساكنا، ولا تترك أثرا يذكر. هكذا ندرك بأن خروج أبوحفص من جحيم التطرّف يبقى في كل أحواله جهدا ذاتيا وعصاميا لا فضل فيه للمؤسسات الرّسمية أو شبه الرّسمية. فعلا، كثيرون مـن قاموا بمجرّد مراجعات تكتيكية، تهم الموقف من الحاكم، أو الموقف من الصراع في سوريا، ونحو ذلك من المتغيـرات التي قـد تتقلب بسرعة البرق ودون جهد يذكر، غير أن المراجعة التي أجراها أبوحفص تمسّ الموروث الفقهي والدين، وتمس ما يسمى بثوابت العقيدة، وتمس فوق هذا وذاك البناء الأساسي للشخصية. وهذا ما يجعل من الأمر ثمرة معاناة وجودية ووجدانية هي أبعد ما يكون عن المراجعات التكتيكية التي اكتفى بها آخرون. يشرف أبوحفص اليوم على إدارة مرصد لمحاربة الإرهاب والتطرف، مركز “الميزان” الذي يقع وسط مدينة الدار البيضاء. وهو عبارة عن مؤسسة مستقلة، يعمل فريقها كخلايا النّحل في فضاء شبه مفتوح، وفق الأسلوب ما بعد الحداثي في علاقات العمل. وبسبب استقلالية المؤسسة وابتعادها عن الحسابات السياسوية الضيقة لمعظم الساسة عندنا، فهي تستطيع العمل بأسلوب علمي وبكفاءة عالية وواعدة. أبوحفص لم يغادر الفكر التكفيري لكي يدير له ظهره كما فعل الكثيرون، وإنما تتملكه قناعة راسخة بأن أحد أوجب واجباته اليوم المساهمة في إنقاذ الآخرين من نفق الجحيم الذي خبره في أدق تفاصيله. يقول في أحد لقاءاته مع شباب حي من الأحياء الخطرة: عندما كنت في سنّكم وكنت في بداية الطريق إلى التطرّف لم أصادف من يعرف الطريق بما يكفي لكي يحذرني، أما أنتم فمحظوظون، على الأقل لأنني أنا الذي خبرت طريق التطرف من ألفه إلى يائه، ومن أدنى مراتب الدعوة إلى أعلى مستوياتها، أقف أمامكم لكي أحذركم وأذكركم بحديث رسولنا الكريم: لا يشاد الدين أحد إلاّ غلبه. بمعنى، أنّكم إن تشدّدتم في الدين ستُغلبون حتما، وستضيعون الكثير من الفرص في حياتكم، وستكتشفون في آخر العمر بأنكم كنتم مخدوعين. يُعتبر أبوحفص اليوم قوة تنويرية ضاربة في مواجهة الفكر التّكفيري. وأوّل من يدرك هذه الحقيقة هم شيوخ السلفية التكفيرية أنفسهم، الباقون في الجحيم، والذين تكالبوا عليه وألّبوا عليه الأتباع والمريدين، لا سيمـا بعـد أن صـرح في بـرنامج تلفزيوني بالحاجة إلى مراجعة نظام الإرث في الإسلام. وكل ذلك يؤكد لنا أن المراجعـة بمعنـاها العميق إنجاز نادر ومأمول أيضا. إنه النادر النفيس في نفس الآن. قبل أيام قليلة، كان جالسا أمامي لمحاورتي داخل أستوديو مركز الميزان ضمن برنامج سيبث قريبا على موقع يوتيوب، عندما قلت في نفسي: ها هو أبوحفص يحاورني في برنامج تنويري.. يا إلهي! من كان يحلم بهذا المشهد قبل عشر سنوات فقط؟ فعلا، في أسوأ الظروف يجب أن نؤمن بالإنسان. كاتب مغربيسعيد ناشيد

مشاركة :