عقدت قبل أيام في ميونيخ، عاصمة ولاية بافاريا الألمانية، الدورة الحادية والخمسون لمؤتمر الأمن، وسط أجواء تتراوح بين خيبة الأمل والتشاؤم حول مستقبل الأمن والسلام في أوروبا. كان لافتاً للاهتمام الإشارة التي صدرت عن كثيرين من أعضاء الوفود عن عودة الحرب الباردة إلى مناقشات المؤتمرات. دفعتهم ولا شك إلى إصدار هذا الحكم لهجة خطاب سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا، دفعتهم أيضاً موجة الاستهزاء والسخرية التي تردد صداها في أرجاء المؤتمر رداً على استخدام الوزير هذه اللهجة. لم يكن لافروف وحده مسؤولاً عن إثارة أجواء الحرب الباردة، فقد سبقه إلى ذلك فالتر شتاينماير وزير خارجية ألمانيا في خطاب افتتاح المؤتمر، حين تحدث عن أوضاع القارة الأوروبية واصفاً إياها بأنها مثيرة للقلق، وفي الوقت نفسه أشار إلى عودة قضية الأمن والسلم في أوروبا لتشغل اهتمام الأوروبيين، بعد سنوات من العيش في اطمئنان وسلام ورخاء اقتصادي. من ناحية أخرى، ساعد على التذكير بالحرب الباردة الموقف الذي اتخذه وجاء خصيصاً من أجله وفد الشيوخ الأميركيين المعروفين بتطرفهم اليميني، وعلى رأسهم السناتور جون ماكين. هؤلاء لم يترددوا في إطلاق صفة الانهزامية على أنغيلا ميركل، لإصرارها على الاستمرار في الاعتماد على الديبلوماسية ورفضها العنيد تسليح أوكرانيا. كان واضحاً ومثيراً للانتباه الموقف المعاكس لجو بايدن نائب الرئيس أوباما وجون كيري وزير خارجيته، اللذين عبرا عن رضى أوباما عن نهج ميركل. هكذا بدا الرئيس أوباما للجميع أقرب إلى ميركل وفرنسوا هولاند وغيرهما من قادة أوروبا منه إلى خصومه في الكونغرس الأميركي. بدا واضحاً أن بايدن وكيري مكلفان من الرئيس الأميركي بتلطيف الأجواء المحيطة بميركل ومساعدتها على مقاومة الضغوط المتطرفة. أشعر من متابعتي من الخارج أعمال المؤتمر وتسريباته وصداه، أن روسيا من جانبها لم تتردد في صب مزيد من الزيت على النار. كان لافروف حاداً في كلماته الموجهة إلى الأوروبيين، في وقت عاد الرئيس بوتين إلى ترديد عبارة «هؤلاء الذين يعتقدون أنهم كسبوا الحرب الباردة»، في إشارة إلى الصقور المسيطرين على بعض مقاليد صنع السياسة الأمنية والعسكرية في الغرب. سمعت من يقول إن بوتين يقصد بهذه العبارة بعض مراكز البحث والعصف الفكري المنتشرة في واشنطن والعديد من المدن الغربية، ومنها مراكز لم تتوقف منذ نهاية الحرب الباردة عن تأجيج نيران الصراع بين الغرب وروسيا، وإثارة مشاعر الخوف المتأصل في الرأي العام الأميركي تاريخياً وأيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً من سمعة روسيا التوسعية والعدوانية. يظهر هذا التوجه جلياً كلما أثيرت مثلاً قضية «الزعامة» الأميركية وقيادة أميركا للنظام الدولي وتراجع مكانتها، وكلما تصاعد التشكيك في «استثنائيتها»، إذ ما زال يكمن في ظن معظم الباحثين ذوي الخبرة في شؤون روسيا السوفياتية، أن «الزعامة الدولية» حطت في واشنطن لأن الولايات المتحدة تكفلت بإدارة صراع على هذه الدرجة من الخطورة مع الاتحاد السوفياتي، ولولا هذا الصراع لما بقيت الزعامة من نصيب أميركا. بمعنى آخر يصبح الصراع «العنيف» مع روسيا شرطاً ضرورياً لاحتفاظ أميركا بدورها القيادي في العالم. ولعل في هذا المعنى ما يفسر ملاحظة أن هذه المراكز والنخب البحثية لا تخفي حماستها ضد كل دعوة توجهها الإدارة الحاكمة في واشنطن إلى دول أوروبا لتشارك في مسؤوليات الأمن والسلام في أوروبا خصوصاً والعالم بأسره. من هنا، بات أمرا متوقعاً أن تتعرض أنغيلا ميركل لانتقادات شديدة من اليمين المتشدد في أميركا وأوروبا بسبب إصرارها على أن مشكلة أوكرانيا وكل المشكلات المعلقة مع روسيا، لا يمكن حلها عسكرياً. بات متوقعاً أيضاً أن تستغل القيادة الروسية حال الانقسام في صفوف دول الغرب، للحصول على مزايا أفضل في الصراع الدائر على أوكرانيا. سادت هذه التوقعات في وقت كانت روسيا تعرف، كما نعرف نحن ويعرف الكثيرون، أن ألمانيا فقدت في الفترة الأخيرة بعض شعبيتها في أوروبا، وبخاصة بين القوى اليسارية. جاء آخر دليل على أيدي الناخبين اليونانيين الذين أدلوا بأصواتهم في انتخابات نيابية وصفت بأنها انتخابات «ضد ألمانيا»، لصالح حلول يسارية للمشكلات الاقتصادية وربما ضد اليورو، ولكنها في باطنها كانت ضد «هيمنة ألمانيا». من ناحية ثانية، ازداد عدد الدول الأعضاء في منطقة اليورو التي تعبر المعارضة فيها بصوت عال عن انتقاداتها لألمانيا. ألمانيا متهمة بأنها تهتم بدعم صادراتها أكثر من اهتمامها بمصالح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ألمانيا متهمة أيضاً بأنها تسعى من وراء فرض سياسات نقدية معينة والتقشف إلى حماية شركاتها وخدمة مصالحها ودرء المنافسة. كذلك يتضح يوماً بعد يوم أن عدداً أكبر من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تخف حماستها لدعم أفكار وخطط توسيع نطاق الاتحاد في شرق أوروبا وخفت بالفعل حماسة دول أخرى من خارج الاتحاد في سعيها للانضمام إليه. من ناحية ثالثة، لا يحتاج المراقب الى أكثر من العين المجردة ليكتشف أنه في داخل ألمانيا ذاتها عادت الى الظهور مشاعر التململ والانتقاد بين مختلف فئات الشعب الألماني لكل ما هو حاصل في شرقي ألمانيا، وعادت بشكل لافت في مقاطعات معينة أكثر من غيرها. بهذه المعاني كان مؤتمر ميونيخ للأمن في دورته هذه كاشفاً على أكثر من صعيد. كان كاشفاً عن قلق متزايد صار يلف القارة الأوروبية وأسبابه متعددة، وعن واقع أن روسيا والغرب ابتعدا أحدهما من الآخر أكثر من أي وقت مضى منذ إعلان انتهاء الحرب الباردة. كان كاشفاً أيضاً عن نهاية حلم بوتين عن «أوروبا البيت المشترك» والاقتراب المتسارع من وضع تبدو فيه روسيا أشد عزلة، وبالتالي أشد قابلية لممارسة سلوكيات عدوانية ومتطرفة في طموحاتها. كان المؤتمر كاشفاً عن حقيقة أن أميركا لم تحسم بعد قرارها في شأن أولوية شرق آسيا في مستقبل علاقاتها الخارجية، إذ ما زالت أوروبا تعيد فتح ملفات شائكة من مخلفات حروبها وتحالفاتها القديمة، وما زالت تثير زوابع ديبلوماسية وأمنية تهدد جهود الولايات المتحدة لفكّ بعض وشائج الارتباط بالقارة الأوروبية. ولم يكن خافياً أن مناقشات المؤتمر، سواء في لجنته العامة أو لجانه الفرعية، أكدت حقيقة أن حلف الأطلسي، ومن ورائه إدارة الرئيس أوباما، غير مستعد على الإطلاق لتزويد أوكرانيا أسلحة تسمح لها بالتهور في دخول حرب ضد روسيا. يظل الحدث اللافت من وجهة نظري، إلى جانب ما انكشف في المؤتمر، هو غياب أميركا اللاتينية. لفت نظري بشكل خاص غياب البرازيل، على رغم ما هو معروف من أن لها مصالح قوية في صناعة السلاح وتصديره وفي مهمات حفظ السلام في أفريقيا وهايتي، وما هو ملاحظ من اشتراك العديد من كبريات شركاتها في صنع السلاح والطائرات وشركات الأمن المتعددة الجنسية. لم يستطع مسؤول في المؤتمر تفسير ظاهرة غياب البرازيل عن هذه التظاهرة وعن فرصة المشاركة في سوق كهذا. كان لافتاً أيضاً غياب عدد كبير من دول آسيا، وضعف المشاركة الصينية، الأمر الذي أوحى لبعض المعلقين بفكرة أن الصين ربما قررت إقامة مؤتمر سنوي للأمن الآسيوي يعقد في مدينة آسيوية أو في الصين نفسها. هذه الفكرة تبدو مستوحاة من فكرة أخرى ترددت على هامش مؤتمر دافوس والقائلة بأنه لن يمر عامان أو ثلاثة إلا وستوجه الصين الدعوة إلى مؤتمر اقتصادي عالمي على شاكلة مؤتمر دافوس، يكون أكثر تعبيراً عن التحولات في النظام الاقتصادي العالمي التي تتوقع الصين ودول «البريكس» اكتمالها في وقت قريب.
مشاركة :