لأن "آفة حارتنا النسيان" فقد جاء هذا الكتاب ليذكرنا بما أثير حول رواية "أولاد حارتنا" أدبيا، ونقديا، وسياسا، ودينيا، واجتماعيا، وجماليا، وفلسفيا، .. الخ، بطريقة أقرب إلى السرد الروائي الموثّق صحفيا، ومن هنا تأتي متعة قراءة الكتاب. وتصافحنا في أول الكتاب عبارة: "انخفاض مفاجئ في درجات الحرارة، الجو أقرب إلى البرودة والسحب الخريفية تغطي سماء القاهرة. الشيوعيون في سجن المحاريق بالواحات، بينما تتواصل الحملات الإعلامية ضدهم. لص مجهول يسطو على كرمة ابن هانئ بيت الشاعر أحمد شوقي على نيل الجيزة، من بين المسروقات نخلة من الذهب أهداها حاكم البحرين حمد بن عيسى لشوقي احتفالا بمبايعته أميرا للشعراء في أبريل 1927، وكأس من الفضة هدية من الاتحاد النسائي برئاسة هدى شعراوي .. الخ". نحن أمام أجواء روائية بامتياز، ما أدق الوصف والرصد وتهيئة القارئ لحادث جلل سيقع بعد هذا التمهيد الطقسي أو المناخي وذكر بعض الأحداث ذات الصلة الثقافية والأدبية المنشورة في الصحف، يعقبها تهيئة أخرى سياسية على المستويين العربي والمحلي لتكون مصاحبة للأجواء التي سيتم وسطها نشر الحلقة الأولى من رواية نجيب محفوظ الجديدة "أولاد حارتنا" بالصفحة العاشرة من جريدة الأهرام في 21 سبتمبر 1959 بعد أن أعلنت عنها في صفحتها الأولى قبل أسبوع بقولها: طبعة بيروت "اتفقت الأهرام مع نجيب محفوظ كاتب القصة الكبير على أن تنشر له تباعا قصته الجديدة الطويلة. إن نجيب محفوظ هو الكاتب الذي استطاع أن يصور الحياة المصرية تصوير فنان مقتدر مبدع، ولذلك فإن قصصه كانت حدثا أدبيا بارزا في تاريخ النهضة الفكرية في السنوات الأخيرة. ولقد وقّع الأهرام مع نجيب محفوظ عقدا يصبح للأهرام بمقتضاه حق النشر الصحفي لقصته الجديدة مقابل ألف جنيه. والأهرام لا يذكر هذا الرقم – وهو أكبر مبلغ دُفع في الصحافة العربية لقصة واحدة – تفاخرا أو ادعاء، وإنما يذكره ليسجل بدء عهد جديد في تقدير الإنتاج الأدبي". هكذا تبدأ حدوتة أو حكاية "أولاد حارتنا" في كتاب محمد شعير، ويبدو أن هذا التمهيد الذي نشرته الأهرام، أوغر صدر بعض الأدباء والكتاب اليساريين واليمينيين على حد سواء، فأخذوا يتربصون بالرواية وبكاتبها، وكانوا إحدى الشرارات التي انطلقت ضدها، فلم تكن النفوسُ كلُّها بريئةً في ذلك الزمان، ويعتقد نجيب محفوظ أن أحمد عباس صالح أو سعد الدين وهبة كانا وراء بداية الهجوم على "أولاد حارتنا" حيث قال أحدهما: "يا جماعة، خذوا بالكم. دي مش رواية عادية. دي رواية عن الأنبياء. ساعتها قامت القيامة". بطبيعة الحال يوثِّق محمد شعير لكل كلمة وكل إشارة وكل جملة وكل عبارة في كتابه. أيضا لا يخلو الأمر من دخول شاعر تقليدي في حلبة الصراع وهو صالح جودت محرر باب "أدب وفن" في مجلة "المصور" حيث نشر في 18 ديسمبر 1959 – أي قبل اكتمال نشر الرواية بأسبوع كامل بالأهرام - رسالة من قارئ يدعي محمد أمين جاء فيها: إن محفوظ في روايته الجديدة يَحيد ويُجانب كل أصول القصة، فكتابته الأخيرة لا هي رمزية ولا هي واقعية، ولا هي خيال، ولا تنطبق على أي قالب معروف". وأضاف: "جاء محفوظ ليتحدى معتقدات راسخة، ولهذا يتعذر على كائن من كان حتى ولو محفوظ نفسه أن يقدمها بمجرد كتابة قصة. التستر وراء الرموز أضعف قضية نجيب محفوظ في مجتمع يجل الدين بطبيعته". ويوضح شعير أن لصالح جودت مواقف مشابهة ومتناقضة من بعض الكتاب والشعراء أمثال نزار قباني وشعراء شعر التفعيلة، مما يشير إلى الاعتقاد بأن صالح جودت نفسه هو من كان وراء الحملة التي شُنت على "أولاد حارتنا" وقد استشعر نجيب محفوظ نفسه هذا الأمر فكان يُطلق عليه "الشاعر الفسدقي" وأنه أُجبر على معرفته رغما عنه عندما سافرا معا إلى اليمن. هكذا حوكمت الرواية من منطلق ديني، وطالبت بعض الجهات، وقف نشرها. وإذا كان صالح جودت قد نجح في الحملة التي قادها ضد نزار قباني بعد نشره قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" فمُنعت أغاني نزار من الإذاعة المصرية، فإنه لم ينجح في حملته ضد "أولاد حارتنا" التي كان يقرؤها الرئيس جمال عبدالناصر يوميا في الأهرام، وطلب تقريرا من هيكل عن ما يثار عنها. في الوقت نفسه فإن نجاح نشر "أولاد حارتنا" في الأهرام، جعل جرائد أخرى تدخل حلبة المنافسة بنشر روايات مسلسلة على صفحاتها، فتبادر الجمهورية بنشر رواية "البيضاء" ليوسف إدريس بتشجيع من صلاح سالم أحد ضباط ثورة يوليو، وهي الرواية التي ينتقد فيها إدريس بعنف التنظيمات الشيوعية المصرية، وقد بدأ نشرها بعد 12 يوما من بدء نشر محفوظ "أولاد حارتنا"، ولكن لم تحقق رواية إدريس أي متابعة نقدية جادة في ذلك الوقت. ويلاحظ سليمان فياض المفارقة بين الضجة التي أحدثها نشر رواية "أولاد حارتنا" والتجاهل التام لنشر رواية "البيضاء" رغم تزامن نشرهما. هنا نعوّل على مبدأ الجدية والالتزام والعكوف على العمل الأدبي عكوف الراهب على صلاته في محرابه، وهو ما تعودناه من نجيب محفوظ، فنجيب محفوظ لم ينشر روايته إلا بعد أن كتب آخر سطر فيها وآخر كلمة، أما يوسف إدريس فقد أقدم على نشر روايته قبل أن يكتب فيها سوى صفحات معدودة، وبينما كانت عملية النشر اليومية مستمرة للبيضاء، كان يوسف إدريس يكتب صفحات من روايته يقذف بها إلى عجلات المطبعة يوما بيوم، وربما لهذا السبب لم تترك "البيضاء" أثرا ولم تثر ضجة كتلك التي أحدثتها متابعة القراء وبعض النقاد لرواية "أولاد حارتنا". لم تكن جريدة الجمهورية هي الوحيدة التي شاركت في الحملة المضادة لأولاد حارتنا، ولكن دخلت مجلة "الإذاعة" على الخط فكتب رئيس تحريرها حلمي سلام – رجل المشير عبدالحكيم عامر في الصحافة - مقالا بعنوان "مواطن الشبهات" شن فيه هجوما شديدا على محفوظ. سنعرف أيضا بعد ذلك أن المشير عبدالحكيم عامر استصدر أكثر من أمر لاعتقال نجيب محفوظ بسبب تلك الرواية أو روايات أخرى مثل "ثرثرة فوق النيل"، ولكن عبدالناصر كان يتدخل دائما ويلغي أمر الاعتقال ويقول: احنا عندنا كام نجيب محفوظ؟ وهو ما رواه سامي شرف – سكرتير الرئيس عبدالناصر- لمحمد شعير وأنه سمع عبدالناصر يتحدث إلى عبدالحكيم عامر ويطلب منه غاضبا أن يوقف فورا إجراءات القبض على محفوظ، فقال له عامر: إن القوة قد تحركت بالفعل وأنها في طريقها إلى منزله الآن للقبض عليه، فقال له عبدالناصر بالحرف الواحد: "زي ما طلعتها ترجعها .. احنا عندنا كام نجيب محفوظ؟". ويؤكد سامي شرف أن عبدالناصر كان يقرأ الرواية مسلسلة كما نشرت في الأهرام، وهو الذي أعطى تعليماته باستكمالها رغم غضب الكثيرين الذين أرسلوا مذكرات احتجاج ضد الرواية". توالت اللقاءات والحوارات والمقالات حول الرواية واستمر محفوظ يدافع عن روايته وعندما تسأله مجلة الإذاعة عن أمنياته في العام الجديد يقول: "حلمي أن أترك الأدب وأعيش مرتاح البال في مزرعة أعمل بها بعيدا عن ضجيج المدينة وأهل المدينة"، ويبدو أنه كان منزعجا من الآثار التي تركتها الرواية لدى الكثيرين. هكذا تمضي فصول الكتاب السبعة عشر، وملحقها الوثائقي لتكشف لنا بكل تجرد وحياد ونزاهة ما صاحب "أولاد حارتنا" من ضجة وما أثير حولها من مناقشات ومعارك وصلت إلى حد ديوان رئاسة الجمهورية، وأظنها الرواية العربية الوحيدة التي وصلت إلى هذا المدى، وعندما يقترح حسن صبري الخولي مندوب رئيس الجمهورية ترتيب حوار بين محفوظ وعدد من شيوخ الأزهر المعترضين على نشر الرواية ومن بينهم: الشيخ محمد الغزالي والشيخ محمد أبوزهرة والشيخ أحمد الشرباصي يوافق محفوظ ويتوجه إلى مكتب الخولي في الموعد المحدد ولكن الشيوخ يتخلفون عن الحضور. ويدور حوار بين الخولي ومحفوظ ينتهي إلى اتفاق جنتلمان أنه بإمكان محفوظ نشر الرواية في أي بلد عربي باستثناء مصر إلا بموافقة الأزهر، وهو الاتفاق الذي التزم به محفوظ دوما إلى أن صدرت الرواية في مصر بالفعل بمقدمة للدكتور أحمد كمال أبوالمجد. سيرة الرواية حكايتنا مع السلطة والرقابة ومن الغريب أن توافق مشيخة الأزهر على إذاعة "أولاد حارتنا" في مسلسل إذاعي بإذاعة صوت العرب وتم الاتفاق بين محمود حب الله (أمين عام مجمع البحوث الإسلامية) ومحمد عروق (مدير صوت العرب) وأذيع المسلسل في عام 1970 بإيعاز من محمد فائق وزير الإعلام وقتها، وهو ما ذكره الروائي محمد جبريل في كتابه "صداقة بين جيلين" ويؤكد عليه فائق في مقابلة مع شعير في إحدى الندوات العامة. ولكن الأغرب أن يتم إيقاف إذاعة المسلسل بعد الجلقة الثانية، عند إعادة إذاعته بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل عام 1988، الأمر الذي يدل على انسداد الرؤى وتراجع شديد في المفاهيم الفكرية والثقافية ما بين عامي 1970 و1988 وظللنا على هذا الحال من التراجع إلى أن يُغتال الكاتب والمفكر فرج فودة في 8 يونيو عام 1992 ويُصاب نجيب محفوظ بطعنة غادرة في عنقه في 14 أكتوبر عام 1994 وهو ما توقف عنده طويلا محمد شعير في فصل يحمل عنوانه تاريخ الطعنة، ويبدأه بداية وصفية روائية بقوله: "في الجو غبار خانق وحر لا يطاق (كما يقول نجيب محفوظ في مفتتح "اللص والكلاب")، عواصف رملية تضرب القاهرة، وتتسبب في حوادث وانهيارات عديدة، وأمطار رعدية، وسيول تُغرق عددا من المحافظات الجنوبية". يتعرض شعير أيضا إلى العلاقة بين نجيب محفوظ وسيد قطب، وقد توقفتُ طويلا من قبل أمام تلك العلاقة، فسيد قطب يعد أول ناقد أدبي التفت إلى أعمال نجيب محفوظ وكتب عنه. ويرى الناقد الإماراتي الدكتور علي بن تميم في كتابه "النقاد ونجيب محفوظ .. الرواية من النوع السردي القاتل إلى جماليات العالم الثالث" الصادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث أن مقالات سيد قطب صاغت صورة محفوظ الشاب المبدع المظلوم الذي كان ضحية الشيوخ (من أمثال: العقاد والمازني وهيكل والحكيم وطه حسين ..)، فمحفوظ لم يكن على وفاق مع الثقافة السائدة منذ أن بدأ الكتابة، ولم يسافر إلى الغرب مثل بعض الشيوخ مما أسهم في عدم تقبله رواياته، فالجيل السابق كان يرى أن الرواية فن غربي، علاوة على أن أعمالَه السردية لا تقدم تلك العوالم الغربية التي ألح عليها مثلا مجايله إحسان عبدالقدوس، وكل هذا كان مؤثرا في نقاد محفوظ بعد الثورة، خاصة أن "الثلاثية" تحقق ـ لأول مرة ـ سردنة الأمة المصرية على نحو متخيل في نص إبداعي يسجل الحكاية الوطنية قبل ثورة 1919 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ممهدة ـ كما فهمها النقاد ـ إلى ثورة 1952 وينافس أهمية رواية "عودة الروح" ورؤيتها الوطنية المتخيلة، ويقلل منها شيئا ويردها إلى سياقها التاريخي. ويؤكد علي بن تميم أن سيد قطب كان عضوا في المؤسسة الغريبة التي تدعى نجيب محفوظ، ولتلك المؤسسة أعداء ومؤيدون مثل أي مؤسسة، أشد أعدائها جيل الشيوخ وعبدالعظيم أنيس وإدوار الخراط والقوميون والدينيون، ولها من المؤيدين الكثر مثل سيد قطب وأحمد عباس صالح وأنور المعداوي ونجيب سرور، ولها أعضاء ممن انتسبوا إليها ثم رفضوا العضوية مثل صبري حافظ، فحل محله جمال الغيطاني ورجاء النقاش اللذان تخصصا في تدوين كل نأمة تتلفظ بها (تلك المؤسسة). ومن الغريب أن ينقلب سيد قطب على تلك المؤسسة بعد أن احتفى بها وكال المديح لمحفوظ عن رواياته خان الخليلي والقاهرة الجديدة وزقاق المدق، بل دعا إلى تكريم نجيب محفوظ عن روايته "كفاح طيبة". إن رواية "أولاد حارتنا" تظل هي الرواية المركزية في عالم نجيب محفوظ، لدرجة أن تفسيراته لها تتقاطع أحيانا وتتعارض أحيانا أخرى على مدى فترات زمنية مختلفة، ولكنها في جميع الأحوال تشكل حالة خاصة – بحسب وصف محفوظ نفسه – فلم تعد مجرد رواية طرح فيها أسئلته حول العدل والحرية، بل صارت – كما يقول شعير - تمثيلا لحكايتنا مع السلطة والرقابة، حكاية المجتمع نفسه وتوقه للتفكير خارج الخطوط الحمراء.
مشاركة :