شاعت في مجتمعنا ظاهرة الجرأة على الإفتاء في السياسة والاقتصاد ومذاهب الأخلاق ومقاصد الشرع ودقائق الطب ومعضلات الهندسة وغوامض الأفلاك، يفعل هذا المتعلمون وأنصافهم بحجة حرية الرأي وحق كل إنسان في أن يبدي رأيه، (حرية الرأي حق موضع اتفاق). وأعجب لعاقل يرمي نفسه في البحر وهو لا يعرف السباحة أو لراشد يحترم نفسه يتصدى لمناقشة قضايا لا يعرف حتى مبادئها الأولية. هل يعقل أن يتورط إنسان متعلم، يعرف قيمة المناهج العلمية وفوائد التخصص، في الحديث عن قضايا تخصصية، تخفى بعض دقائقها حتى على بعض العاملين في مجالها وهو غير ملم ببديهياتها ويصر على الدفاع عن أقواله الواهية المضحكة؟.. ترى أحدهم لا يحسن قراءة آية من القرآن الكريم لكنه لا يتردد في التطاول على شرحها واستخلاص حكمتها وبيان أحكامها، وإذا جاءه من يرشده إلى أن القول في كتاب الله بغير دراية مخالف لما عليه أهل العلم إلى جانب كونه ليس منهجا علميا، صاح: هذا رأيي ولست ملزما بالعودة إلى أقوال أناس من زمن غير زمني ثم أن هذا الدين للجميع وليس فيه «كهنوتية» وأن الذين يخفوننا من الحديث في الدين بدون دراسة متخصصة هدفهم «احتكار الدين» وتحويله إلى «صناعة» لها أربابها والمستفيدون منها ولهذا لا يريدون أن يقترب منها أحد بعد أن حولوها إلى «بزنس» له أرباحه الوفيرة.. وصاحب هذا الموقف لا يختلف عن من يظن أن طلب العلم الشرعي «رخصة» تعطي صاحبها الحق في إصدار الأحكام النهائية في القضايا التخصصية الدقيقة. وكان آخر هذا النموذج من قال إن قيادة المرأة للسيارة تؤثر على خصوبتها!! وهو قول غريب لا سند شرعيا يدعمه ولا تجربة علمية تؤيده وحين طالبه المختصون بالدليل غاص في رمال من الكلام العام الذي لا برهان له من شرع أو علم. والسؤال: ما هي البيئة العلمية التي أنتجت هذين النموذجين اللذين تحول عندهما الحوار إلى «جدل» لا يستهدف معرفة الحقيقة واكتساب المعرفة بل همه «الانتصار» للذات على المحاور أو المجادل مهما كانت الفكرة باطلة واهية.
مشاركة :