< الجدل حول العلمانية، في المجتمعات العربية، مكرر ممل، استغرق عقوداً من الزمن في نهر من الكلام من دون نتيجة تذكر أو ثمرة تقطف أو موقف يحدد الوجهة. وإذا سألت: لماذا لم ينته هذا الجدل إلى «خلاصات» واضحة الملامح، يطمئن إليها الناظر ويصح التوقف عندها للانطلاق إلى ما بعدها، لم تجد إجابة شافية، بل غمغمات غير مبينة وكلاماً حلزونياً يدور حول نفسه، يختلط فيه الموضوعي بالذاتي والحق بالباطل، حتى تشتبك خيوطه فلا يستطيع المتأمل فك عقده، بعد انشغال المتحاورين في الملاججة والملاسنة وتبشيع الدعوات وتسفيه رأي المختلف والتمترس خلف خنادق «المواقف المسبقة»، التي شوهت منهج النقاش وعطلت حركة الحوار العلمي، الذي يفضي إلى قناعات تشكل رأياً عاماً يوجه مسيرة المجتمعات إلى طريق واضح تسلكه الغالبية. وفي هذه الأيام يعود الحديث عن «العلمانية» وموقف الدول والمجتمعات منها، إلى وسائل الإعلام الخليجية، مرتدياً قناع الثقافة، متخفياً بعباءة التحول الاجتماعي، ليستر دوره ومقاصده في التوتر السياسي، الذي يجتاح المنطقة كلها، وما أن يزول «الخطر» حتى تتوارى النقاشات الحادة وتهدأ النفوس وتتقارب الاجتهادات، فتتكشف حقيقة ودوافع تلك الحوارات، التي تتخذ القضايا الفكرية ذريعة لمناصرة موقف سياسي معين. وتظل الأسئلة قائمة: لماذا يخف وزن الثقافة و«يتواضع» دور المثقف في حركة تطور المجتمعات بالمنطقة العربية؟ ولماذا يتضاءل تأثير دعاة «العلمانية» في مسيرة المجتمعات وتنميتها؟ أزعم أن من الأسباب الأساسية لعقم الحوار حول العلمانية وضآلة محصوله ومسؤوليته في حركة تنمية المجتمعات هو «غياب الحرية»، الذي كان من نتائجه خفوت تأثير دعاة التحديث والتنوير حين احتموا من ضغوط المزاج الشعبي العام والتيارات المقاومة لمشروعهم بأنظمة لا تحترم الحريات ولا تقبل الرأي الآخر وتسوق الناس في اتجاه واحد، الأمر الذي أدى إلى أن تكون دعوات التحديث «ضحية» لمواقف غالبية دعاتها... لن «أتوه» في مناقشة نوازع الحرية وغريزيتها في طباع الإنسان وحاجته الطبيعية إليها، فذلك، على رغم متعة الخوض فيه، سيفقد الكلام هدفه «العملي» المنشغل بالتحولات الاجتماعية وما يصاحبها من قضايا فكرية وثقافية، لأسأل: ماذا تعني لي ولك الحرية أيها القارئ الكريم؟ سأترك لك خيار إجابتك لكنني أرى، ببساطة، أن الحرية تعني لي: الاطمئنان إلى أصالة ما أعتقده استدلالاً بنص أو استرشاداً بعقل غير منفلت من ضوابط العلم، كما تعني لي إحساساً فطرياً يعطي آرائي وتصرفاتي متعة ذاتية نابعة من أنني صاحب إرادة لا توجهها ضغوط لا تتفق مع قناعاتها، ومن هنا تصبح الحرية وسيلة لبناء الذات «المخلصة» التي لا تضطر إلى التلون أو التظاهر بما ليس في داخلها، وهي الذات التي تدفع الإنسان، باختياره، لإبداء رأيه الصادق في مشاركة الناس قضاياهم والاجتهاد في البحث عن علاجها. وهذا «القرار الاختياري» هو الذي يفجرالطاقات ويطلق القدرات إلى فسيح ميادين الإبداع والابتكار، ولهذا - من دون تفلسف - تلعب الحرية دورها الأصيل في تقدم الأمم ونهضة الشعوب، وتضمن استمرار حركة التقدم بصورة طبيعية، تحميها من النكسات، والتاريخ المعاصر يسجل لنا أن «القفزات» التي تحققت في ظل انعدام «حرية الاختيار» انهارت في شكل حاد فتبين «هشاشة» القواعد الأخلاقية التي قامت عليها، (التجربة الماركسية والهتلرية شاهد حي). والحرية نافعة للمجتمعات كما هي حاجة للفرد ودافع له، إذ تضبط سلوك الناس، على غير ما يعتقد البعض، فشعور الإنسان بحرية الاختيار وموافقته على الضوابط الاجتماعية والأنظمة المسيرة لحياة مجتمعه تجعله أحرص على التمسك بها وحمايتها والدفاع عنها ومواجهة «الانحرافات» التي يحدثها من أعطوا الحرية، لكن سوء طباعهم وفساد مقاصدهم جعلهم «ينحرفون» عما تصالح عليه المجتمع.. ولهذا نرى في مجتمعات «الديموقراطية» احترام الناس للقوانين وخضوعهم لمفاهيمها واستعدادهم للدفاع عنها متى ما خرمها أصحاب المصالح أو الأهداف الخاصة. ومن ثمرات الحرية أنها تهذب العقل وتدرب النفس على «الموضوعية» وتحمي أصحابها من الجنوح إلى التطرف والتشدد، فالإنسان المتمتع بالحرية لا يتطرف - لا أتحدث عن المأزومين والشواذ والخاضعين للابتزاز من أي نوع - في نقده للأخطاء، بل يحرص على الاعتدال والاعتماد على الاستدلال بالمعلومات، والمحاورة بالمنطق، مع احترام نتائج العلم، لأنه يحرص على أن يقف الآخرون من آرائه موقفاً منصفاً، في حين أن الإنسان «فاقد الحرية» يجتاحه شعور خفي بالظلم، ويريد أن ينتقم من مخالفيه وكل ما حوله، لاعتقاده - داخليا - بأنهم شركاء في سلبه حريته، وأن ما يدور حوله ليس له علاقة به، ويبرر لنفسه، أخلاقياً، تنصله من القواعد الاجتماعية والضوابط القانونية، وهكذا يفضي الشعور بعدم «حرية الاختيار» إلى «الانفصال» الذهني والشعوري، تفقد معهما الأشياء مسمياتها الحقيقية، فيتصور الواقع تحت تأثيرهما أنه «حر» في ما يفعل، وأن الآخرين الملتزمين بالأنظمة والقواعد الاجتماعية فاقدون للحرية. ليس جديداً القول إن الإسلام يعظم الحرية ويعلي من شأنها ويرفع قدر المؤمنين بها ويرسخها في وعي الإنسان وعقله حين جعلها «الأصل في الاعتقاد» فلا عقيدة ولا إيمان بلا حرية، ولا اطمئنان لعقيدة المكره الذي يعلن، تحت وطأة الجبر، خلاف ما يعتقد. وهذا الأصل (حرية الاعتقاد) هو الذي منح العقل مكانته في دين الإسلام، فانطلق متأملاً في خلق السموات والأرض مستدلاً بوجودهما على الواجد، متدبراً خلق الإنسان في أحسن تقويم، فاحصاً الأفكار، مختبراً الدعوات والشعارات، مميزاً بين الدين الحق والخرافات الواهمة، متوجهاً إلى مبدع الكون بالطاعة، تاركاً تعظيم من لا يخلق ولا ينفع. وهذه «الحرية» هي التي أثرت العلوم في حضارة المسلمين، شرعيها وعقليها، فالعقل الحر المهتدي بنور اليقين هو الذي ينظر في النصوص الشرعية بحثاً عن مقاصدها، التي أرادها الشارع، ويعمل اجتهاداته في استنباط ما يصلح به الإنسان والمجتمعات شؤونهم وقضاياهم، من دون أن تجد نفسها في «تناقض» بين تعاليم دينها واستنتاجات عقول أبنائها. حرية الاختيار، ركيزة منهج الرشد المؤدي إلى بناء مجمعات سوية لا تحتقر ذاتها ولا تغلق عقولها من دون منجزات الإنسانية.. * كاتب سعودي. mohalfal@
مشاركة :