كادت مكتبات الخرطوم تخلو من الصحف، إثر أكبر عملية مصادرة للصحف في تاريخ السودان حديثه وقديمه، بمصادرة جهاز الأمن لـ(14) صحيفة ما بين سياسية ومتخصصة، من المطابع بعد تمام طباعتها، دون تقديم تفسير لأسباب المصادرة الفعلية، ما أثار ردود فعل صحافية واستهجانا واسعا باعتبارها «مجزرة صحافية». ولا يقدم جهاز الأمن السوداني تبريرًا لأفعاله، بما في ذلك مصادرته للصحف بعد الطباعة، والمقصود بها إلحاق خسائر فادحة بناشري الصحف ليمارسوا ضغوطًا على هيئات التحرير لتلتزم بما تسميه الحكومة «الخطوط الحمراء» غير المعروف حدودها وبداياتها. ووصف وزير الإعلام المتحدث باسم الحكومة أحمد بلال في تصريحات صحافية مصادرة الصحف بـ«القانونية»، وقال: إنها تتم وفقًا لقانون الأمن الوطني، واتهم الصحف بنشر مواد تهدد الأمن وتثير الفتنة، وقال: «ما حدث ليس مجزرة كما يشاع، على الصحف مراعاة الثوابت الوطنية»، وتوعد باستمرار مصادرة وتوقيف الصحف، بسبب الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد. واحتج صحافيون بشكل تلقائي ونظموا وقفة احتجاجية أمام المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحافية – الجهة المسؤولة قانونًا عن تنظيم مهنة الصحافة - وأبلغوا قيادة المجلس برفضهم للانتهاكات الفظيعة بحق الصحافة والتي وصفوها بأنها مجزرة غير مسبوقة، فضلًا عن تسليمهم لـ«أقلام مكسورة» لرئيس المجلس علي شمو ترمز لمصادرة الحريات الصحافية. ووصفت «شبكة الصحافيين السودانيين»، وهي تنظيم صحافي مهني مواز لاتحاد الصحافيين الموالي للحكومة ما حدث بـ«المجزرة»، وهددت بالدخول في إضراب عن العمل، ودان عضو سكرتارية الشبكة علاء الدين محمود مصادرة الصحف وقال لـ«الشرق الأوسط»: «ما تم استمرار للهجمة على الحريات الصحافية، والسلطات مستمرة في الضيق بالحريات التي وضعتها، وما تم مجزرة أوصلت الضيق بالحريات الصحافية ذروته، وأنها واصلت نهجها المعروف بحلحلة مشاكلها عبر الحلول الأمنية، ونحن ندرس الدخول في إضراب عن العمل». وتضاربت «التكهنات الصحافية» بشأن إيقاف هذا العدد الكبير من الصحف، وأرجعت بعضها الأمر لنشر مرتبط باختفاء صحافي اكتشف لاحقًا عدم جنائية اختفائه، وبين نشر ملفات فساد أشهرها قضية حاويات تحمل مواد مشعة دخلت البلاد، وتناول الصحف للعمليات العسكرية الدائرة بين الجيش السوداني والحركات المسلحة في أكثر من مكان في البلاد، وهو أحد «الخطوط الحمراء» المحظور على الصحف تناولها. ويتهم الصحافيون جهاز الأمن والمخابرات بقهر الصحافة والتضييق على الحريات، وممارسة أشكال مختلفة من الرقابة على الصحف، ومن بينها «رقابة الناشر» المهدد بالخسائر المادية الكبيرة والتي تتم عبر «المصادرة بعد الطباعة»، والإيقاف المؤقت، والمنع من النشر في بعض القضايا، وملاحقة الصحافيين والتضييق عليهم واستجوابهم واعتقالهم وملاحقاتهم بالقضايا الجنائية. وصادر جهاز الأمن أمس صحف: «الرأي العام، السوداني، الانتباهة، آخر لحظة، ألوان، الأهرام اليوم، أول النهار، الوطن، المجهر السياسي، الصيحة، أخبار اليوم، التيار، حكايات، الدار»، وخلت منها مكتبات الخرطوم التي قال مالكوها بأن القرار ألحق بهم خسائر كبيرة. وأبدى المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحافية في نشرة صحافية حصلت عليها «الشرق الأوسط» أسفه على مصادرة ما سماه «العدد الكبير» من الصحف، ودعا لمحاسبة المخطئين – حال وجود أخطاء - وفقًا لقانون الصحافة والمطبوعات الصحافية لسنة 2009. والذي يخوله محاسبة الصحف. ودعا المجلس الصحافة لاستشعار ما أطلق عليه «حساسية الأوضاع السياسية والاجتماعية» التي تمر بها البلاد، وللتعامل معها وفقًا لـ«المسؤولية الوطنية»، ولتجنب التعامل مع الوقائع والأحداث عن طريق «الإثارة الضارة». وقال المجلس إنه سيشرع فورًا في اتصالات مع رئاسة الجمهورية وشركاء العمل الصحافي ووزارة الإعلام وجهاز الأمن الوطني لاحتواء الآثار السالبة لقرار المصادرة، وللاتفاق على منهج متراض عليه بما يمكن الصحافة من أداء رسالتها، وفقًا لمسؤوليته المكفولة بالقانون. بيد أن المجلس عاد ليقول إن سلطته مستمدة من «قانون خاص»، وهو مقيد بقانون عام – في إشارة لقانون جهاز الأمن والمخابرات – راجيًا أن تؤول إليه سلطة المحاسبة، وفي ذات الوقت دعا لتجنب الإجراءات الاستثنائية التي من شأنها الإضرار بالمشهد الصحافي والسياسي في البلاد ومساحة الحريات، وفقًا لما جاء في البيان الصحافي. وتعد 12 من الصحف المصادرة صحفًا سياسية، والاثنتان الباقيتان صحفًا متخصصة «اجتماعية»، ولا يعرف على وجه الدقة ما يجمع بين هذه الصحف التي تعمل في مجال اجتماعي مختلف، بالإضافة إلى بعض الصحف المصادرة مملوكة للحزب الحاكم وبعض منسوبيه. وصادر جهاز الأمن صحيفة «التيار» لثلاث مرات متتالية، وصحيفة «الميدان» لسان حال الحزب الشيوعي المعارض 10 مرات، وصحيفة «آخر لحظة» مرة واحدة خلال شهر يناير (كانون الثاني) الماضي فقط، وبلغ عدد النسخ المصادرة من الصحف خلال العام المنصرم 58 نسخة حسب إحصائيات صحيفة «الطريق» الإلكترونية. ووضعت منظمة «مراسلون بلا حدود» المهتمة بالحريات الصحافية، السودان في المركز 174 من مؤشرها البالغ 180 للعام 2014. من بين الدول الأكثر انتهاكًا للحريات الصحافية.
مشاركة :