هذا موضوع كتبت عنه عدة مرات سابقة، ومازلت أعتقد أنه يُمثل قضية ملحة، وذات أولوية لنجاح أية عملية تنموية، وهو ضرورة (تقنين الشريعة). الأمير الأمل محمد بن سلمان يتجه إلى التركيز على تطوير المملكة وتنميتها تنمية شاملة، ويأتي تطوير الاقتصاد في رأس أولويات سموه، على اعتبار أن الاقتصاد هو أس نجاح التنمية بمفهومها وأبعادها المختلفة، وكل من قرأ فلسفته التي تضمنتها (رؤية 2030) سيتضح ذلك له بشكل جلي، وتحديدا في تفاصيل هذه الرؤية. غير أن هناك تساؤلاً أتساءله، ويتساءله معي كثيرون، فحواه: هل يُمكن أن تحقق هذه الخطط التنموية الطموحة غاياتها دون أن (نقنن الشريعة)؟ وأتذكر أن الأمير سُئل مرة عن هذا الشأن في أحد لقاءاته مع نخبة من المتخصصين، ووعد بأنها قادمة. يتفق كثيرون على أن منظومة القضاء الحالي بمختلف درجاتها لا تواكب في أوضاعها تطلعاتنا التنموية، كما أن المستثمر الأجنبي الذي نعول عليه كثيرا، خاصة من حيث المعرفة والخبرة، أكاد أجزم أنه سيتردد عندما يجد سلطتنا القضائية بهذا الشكل غير المتماسك؛ وأنا هنا لا أتحدث عن المضمون، فنحن محكومون بالشرع المُطهر، وهذا ما ينص عليه مباشرة النظام الأساسي للحكم، الذي هو المرجع لكل أنظمة الدولة ومحاكمها، إنما أتحدث عن الشكل الإجرائي، والمتضمن إعادة تبويبها وتحديد الاجتهادات الفقهية التي تتماهى مع العصر، ثم صياغتها في مواد قانونية، يعود إليها القضاة في كل درجات التقاضي، كما يعود إليها طرفا الدعوى أو من يتوكّلون عنهم من المحامين. وهنا لا بد من القول إن كثيرين من المتخصصين، وتحديدا القانونيين منهم يعتبرون أن القاضي في بلادنا يمارس مهمة مزدوجة، فهو يمارس دور القاضي، ويمارس دور ترجيح الاجتهادات الفقهية، التي يُسوغ بها أحكامه، والدور الثاني هنا من اختصاص المؤسسات التشريعية؛ أي أنه بلغة العصر يمارس فعليا دور القاضي والمشرع في آن واحد، وهذا بلا شك يؤدي إلى خلل في الفصل بين السلطات، التي يجب أن لا تكون واحدة قدر الإمكان، وليست طبعا في كل الأحوال. وهنا لابد من الإشارة إلى أن أصول الفقه السني تُعطي لولي الأمر – (الملك أو من ينيبه) – حق اختيار الاجتهاد الأنسب حسب ظروف العصر ومستجداته، حتى وإن كان الاجتهاد الذي يختاره ولي الأمر (مرجوحا)، وليس على القضاة إلا الامتثال، والقاضي في الشرع المطهر لا تنعقد له ولاية، أي صلاحية، إلا إذا عينه ولي الأمر – (الملك) – وليس أي فرد آخر، مهما علت مرتبته العلمية أو الوظيفية بين طلبة العلم. من هنا، وبهذا المنطق، فإن للدولة التي يرأسها الملك كامل الصلاحية الشرعية في سن إجراءات تنظيمية، وترجيح اجتهادات فقهية يكون من شأنها ترسيخ (العدالة) التي هي العلة التي تتلمسها الشريعة في أحكامها، ومثل هذه الإجراءات تجعل حيثيات الأحكام مضبوطة ضبطا محكما، بما يلغي التفاوت في الأحكام بين القضاة في نهاية المطاف. وختاماً لا بد من الإشارة إلى أن الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- قد أصدر أمراً ملكياً عام 1346هـ يقضي بتقنين الشريعة على ضوء المذهب الحنبلي، وأوكل لأحد طلبة العلم حينها هذه المهمة. نقلا عن الجزيرة
مشاركة :