يعوي ذئبٌ أمام وجه رجل محبوس في قفص، الحيوان بهيئةٍ شرسةٍ هجوميّة وقد أدخل رأسه من بين القضبان ليزيد القفص ضيقاً على الرجل المحبوس المتقوقع على نفسه، كلاهما، الحيوان والإنسان رُسِما بذائقةٍ مرهفةٍ، ضربات فرشاة طويلة، تكوينات محدّدة، وتقشّف لوني يجعل المشهد وكأنه ينتمي إلى الحكايات الشعبيّة، بينما عيونهم جاحظة ثابتة نحو الناظر إليهما داخل اللوحة. بهذا الوصف التشكيلي لإحدى لوحات المعرض، تفتتح الناقدة مليسا غراولاند مقالتها النقديّة عن المعرض الاستعادي للفنان المصري سمير رافع 1926 – 2004، المقام حالياً في غرين آرت غاليري في دبي. يقدّم غرين آرت غاليري على مدار العام معارض لفنّانين معاصرين، لكنه يخصّص معرضاً في السنة يكون استعادياً لأعمال فنان من تاريخ الفن التشكيلي، وقد وقع اختيار لجنة الغاليري هذا العام على الفنان سمير رافع، تقول ياسمين الأتاسي القائمة على الغاليري: "لقد أردنا تذكير الجمهور العربي والجمهور هنا في دبي بتجربة سمير رافع، تمتلك تجربته العديد من الخصائص الفنيّة المميزة". أقام سمير رافع معرضه الأوّل وهو في السابعة عشرة من عمره، وعلى الفور اعتُبِرَ من أعضاء الحركة السرياليّة المصريّة، التي كانت تحمل في حينها اسم (جماعة الفنّ والحريّة)، كان من بين أعضاءها جورج حنين، كامل التلمساني، فؤاد كامل، رمسيس يونان، هذا التيار الذي سيؤثّر في الحركة التشكيليّة في مصر لمدّة من الزمن. في الكتاب القيّم الذي قدّمه سمير غريب بعنوان (السرياليّة في مصر، 1998)، يبيّن الكاتب أن (جماعة الفنّ والحريّة) التي لعبت دوراً كبيراً في تطوّر الأدب والفن التشكيلي المصريين في الأربعينيات، نجحت في تحقيق خمسة معارض تشكيليّة جماعيّة تعبّر عن رؤيتها، تَرِدُ مشاركة الفنان سمير رافع في المعرض الجماعي الرابع لهذه المجموعة الذي أقيم في العام 1944. بعد توقّف معارض الفن المستقلّ الجماعيّة، كوّن أحد أصدقاء (جماعة الفنّ والحريّة) ، وهو حسين أمين، (جماعة الفن المعاصر) كان ذلك في العام 1946، ودخل إليها كل من الفنانين سمير رافع، عبد الهادي الجزار، حامد ندا وماهر رائف. العالم الحقيقي هو العالم الدخلي في اللوحات التي يقدّمها المعرض والتي تمتدّ على الفترة الزمنية بين 1943 – 1993، تتنوّع التقنيات بين الرسم الزيتي، ألوان الخشب، الباستيل، والفحم، تحضر العوالم التي يبتكرها سمير رافع، والتي تذكّرنا بما كتبه جورج حنين في بيانه الفني (من اللاواقعيّة): "لماذا البحث عن الحقيقة في الخارج، بينما الموارد الداخليّة نفسها غير مستكشفة؟ إن العالم الحقيقي الوحيد هو الذي نخلقه داخلنا". يبدو العالم الذي يبتكره سمير رافع في لوحاته داخليّاً، حميماً، كأنه لقطة حارّة من الذاكرة، عوالم مغلقة على الدوام، معزولة، وبحالة من الحرارة الباطنيّة. تتقارب لوحات سمير رافع مع اللوحات التي رسمها فان كوخ في فترة إقامته في المصحّ الطبّي، حيث الغرف مغلقة، الكراسي هامدة، الجدران شاحبة، والأفراد يقفون في عزلة، كما في لوحته (وردة لأجل بلانش، 1982). ترتيب شعري للواقع العلاقة بين الإنسان والأشياء، والتجاور بين الإنسان والحيوان في لوحات سمير رافع يُحيلاننا إلى الفن المصري القديم، حضور رموز مثل السمكة والسنبلة والذئب وحضور الطبيعة أيضاً مستمدٌّ من جداريات التراث النوبي، لذلك توحي العديد من لوحاته كأنها مشاهد خرجت من الحكايات الشعبيّة. شاركغرد إنه عالم ميتافيزيقي تحوّر فيه أبعاد المنظور، وتتغيّر فيه أحجام الأشياء وحضور الموجودات في علاقتها الفيزيائيّة فيما بينها، عالم يذكّر برسومات الكهوف، ويُحيل إلى أسلوبيّة (الفن الفطري art naïf ) التي برزت في بدايات القرن العشرين مع رسومات الفرنسي هنري روسو، ومن أطلق عليهم فنانو التعلّم الذاتي autodidacte. يظهر سمير رافع فناناً قادراً على التعبير عن داخليّة نفسه بإحساسٍ صادقٍ وشعورٍ مرهفٍ وتأمّلٍ دفين في عالم قلبه ووجدانه، ويضيف إلى اللوحة ذلك الجوّ الشعري في صوره، هذا العالم المبتكر، كأنه يقترح على المتلقّي ترتيباً جديداً أكثر شعريّة للأشياء.أقوال جاهزة شاركغرد"لماذا نبحث عن الحقيقة في الخارج، بينما الموارد الداخليّة نفسها غير مستكشفة؟ إن العالم الحقيقي الوحيد هو الذي نخلقه داخلنا". شاركغردتتقارب لوحات سمير رافع مع اللوحات التي رسمها فان كوخ في فترة إقامته في المصحّ الطبّي، حيث الغرف مغلقة، الكراسي هامدة، الجدران شاحبة، والأفراد يقفون في عزلة العلاقة بين الإنسان والأشياء، والتجاور بين الإنسان والحيوان في لوحاته يُحيلاننا إلى الفن المصري القديم، حضور رموز مثل السمكة والسنبلة والذئب وحضور الطبيعة أيضاً مستمدٌّ من جداريات التراث النوبي، لذلك توحي العديد من لوحاته كأنها مشاهد خرجت من الحكايات الشعبيّة. الحكايات الشعبيّة يصف الناقد عفيف بهنسي (جماعة الفن المعاصر) التي أنتمى إليها سمير رافع، بأنها عبّرت عن سرياليّة جديدة مناخها مصر والخيال الشعبي فيها، يتجلّى ذلك في لوحات الفنان الشهير عبد الهادي الجزار، كما هو واضح في لوحات معرض سمير رافع، حيث العودة للاستلهام من التراث الشعبي. يقول مصمّم المعارض سام باردويل: "يثبت سمير رافع أن الولوج إلى مصر للتعرّف على ثقافتها وغناها يتمّ عبر الدخول إلى عوالم الناس المحليّين، الطبقة العاملة، الفلاحين، من هنا تنطلق رؤيته في العثور على مصر". أكمل القراءة هذا الاهتمام بالطبقات الشعبيّة والمهن العامّة يذكّرنا بتجرية الرسام السوري لؤي كيالي الذي اهتمّ أيضاً بتجسيد المجتمع السوري من خلال التركيز على الطبقات الشعبيّة وأصحاب المهن العامّة مثل الصيادين والبحّارة وباعة الطريق. لوحة (رجلان يجلسان القرفصاء، 1957) لسمير رافع تشبه للغاية لوحات لؤي كيالي عن الصيادين وناسجي الشباك، والحقيقة أن لوحات كل من لؤي كيالي وسمير رافع لا تأخذنا فقط إلى الطبقات المهمّشة، بل إلى شخصيات مهمّشة أيضاً. تبدو العزلة، الوحدة، الانزوائيّة موضوعات أثيرة في لوحات سمير رافع، حيث يتجسّد الحضور الإنساني في عوالم هذه الحالات. تتحدّث ياسمين أتاسي عن لغة خاصّة شكلها سمير رافع تحتوي الكثير من الوحدة والمسحة الحزينة، كذلك يكتب الناقد شهاب فوزي عن خصوصية من الميلانخوليا أو السوداوية، ومسحة الحزن التي رافقت لوحات سمير رافع في عدّة مراحل فنيّة من إنتاجه، يتجلّى ذلك في اللوحتين المنفّذتين بقلم الرصاص من بين لوحات المعرض، والتي يبدو فيهما الزمن وكأنه جامد أكثر منه غائب، يصف سمير غريب رسومات قلم الرصاص لسمير رافع بأنها ذات تكوينات حادة وراسخة. لكن كيف يوحي سمير رافع في لوحاته بالحكاية ؟ كيف يتشكّل القصّ؟ حين يكرّر مثلاً موضوعة واحدة على عدّة لوحات، فينفّذ مثلاً سلسلة لوحات عن امرأة وذئب، أو عن رجل وذئب. إنّ رَسْمَ أنثى وذئب على عدّة لوحات يوحي وكأنها قصّة، حيث تروي اللوحات تلك العلاقة بين الأنثى والذئب، التي تبدو ودّية في بعض اللوحات، وفي لوحات أخرى تبدو عدائيّة، تصبح كل لوحة تنويعاً على أشكال العلاقة بين الإنسان والحيوان. يؤكّد الناقد فوزي شهاب على استلهام سمير رافع المتكرّر من طفولته، ولذلك يراه وقد عمل على موضوعات مثل: العائلة، القرابة والعلاقات الاجتماعيّة، نجد ذلك ظاهراً من خلال لوحات المعرض: (الأمومة، 1954)، (الأختان، 1950)، (الزيارة، 1965). في لوحة (الأمومة)، تظهر الأمّ حاملة ابنتها بنوعٍ من التضامن الإنساني، وفوق حضورهما المرتبط بالعطاء، تنير نجمة تمنح بإشعاعها المشهدَ قبساً من القداسة، في لوحة (الأختان) من خلال وضعيتهما نستشعر علاقة الأخوّة، التماثل، التعاون والإخصاب، أما في لوحة (الزيارة)، التي يكتب سمير رافع عنوانها داخل اللوحة على القماش أعلى الرسم، فنجد فيها ما يوحي بالتواصل مع الآخر، باللقاء والتقارب الاجتماعي. واحدة من لوحة المعرض تمتلك موضوعة فلسفيّة، تحمل عنوان (تراجيديا الحياة، 1949)، غرفة مغلقة فيها سرير يرقد عليه إنسان، السرير يرتفع عن الأرض، وتحته الأرض مفتوحة على هيئة مربع، على هيئة قبر، الحياة من المهد إلى اللحد، رؤية فلسفيّة أراد الفنان أن يجسّدها في اللوحة. ما كتبه الأستاذ بيكار عن إحدى لوحات الرسام عبد الهادي الجزار، يمكن أن نستذكره الآن عند الحديث عن لوحات سمير رافع: "كنوز في التحرّر من عقال الوعي، والاستسلام لقياد غيبوبي، وغفوة نصف واعية، ليرى بعين باطنة ما لا تراه عين ظاهرة، ليست الأحلام وأضغاثها التي تراوده أثناء النوم العميق، أو الرؤى التي تداعبه في حالة النصف يقظة سوى عيّنات من هذا العالم الكبير القابع وراء أسوار النفس"، هكذا يشعر المتلقّي أمام لوحات سمير رافع. اقرأ أيضاًشعريات الاختفاء والتلاشيمنحوتات نور عسلية.. هشاشة تُحادث الموتفي معرض الفنانة ريما حداد: اللوحة بوسترات أفلام سينمائيّة كلمات مفتاحية الفن معرض استعادي التعليقات
مشاركة :