الربيع العربي ورهانات الأيديولوجيا الخائبة

  • 2/18/2015
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

في مراجعة شاملة لحصيلة مشروعاته السياسية والاجتماعية والقومية والثقافية يتبين أن الفكر العربي الحديث كان منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى الآن ضحية رهانات الأيديولوجيا الخائبة، من الرهانات التوفيقية الإصلاحية النهضوية إلى رهانات الربيع العربي الديموقراطية مروراً بالرهانات الليبرالية والاشتراكية والقومية والثقافية. أما منشأ هذه الخيبة وأصلها في رأينا فيكمنان في قراءتنا لواقعنا وتاريخنا، فقد قرأناهما قراءة أيديولوجية، أخضعناهما لأحكام هذه القراءة المبسطة والمرسومة، وسحبنا عليهما كل تصوراتنا وأوهامنا التي لا تتلاءم مع مسار التاريخ العربي وتوجهاته. في أواسط القرن التاسع عشر ونهاياته راهن التوفيقيون الإصلاحيون العرب في مواجهة التحدي الحضاري الغربي على تأصيل قيم الحداثة ومبادئها في الفكر العربي فذهبوا إلى أن إنجازات الحداثة العلمية والسياسية والاجتماعية والثقافية ترجع إلى أصول في تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا وفكرنا، لا تختلف عنها إلا في الشكل والزمان لا في الأهداف والغايات والمضامين، حتى أن الغربيين أنفسهم نقلوا علومهم وحداثتهم عن العرب، لولاهم لما توصلت أوروبا إلى ما وصلت إليه. وعليه أن مبادئ حقوق الإنسان بكل ما تشير إليه من قيم الحرية والشورى والمساواة والتسامح وقبول الآخر والمختلف، فضلاً عن قيم التعاون والتكافل والمشاركة هي من صلب حضارتنا وثقافتنا. لكن هذا الترقيع الأيديولوجي قد ثبت خواؤه إذ إن تغييب مفاهيم الحداثة في فضاء غير فضائها ما هو إلا تغييب لجوهرها وأهدافها الحقيقية ورهان خائب على الإصلاح من قلب التراث وبأدواته. فثمة ثورة حدثت وتحدث في كل المجالات ليس في وسع التاريخ العربي أن ينجدنا بملاذ يحمينا منها، أو أن يمدنا بأصول موهومة فيه، نبرر بها أخذنا بالحداثة منقوصة ومبتورة. إذا كانت هذه حصيلة الرهان على الإصلاح من داخل التراث فإن حصيلة الرهان على التحول الاشتراكي للمجتمعات العربية كانت أكثر بؤساً وتهافتاً. إذ بدا على مدى قرن كامل من التبشير بالاشتراكية أن شعارات التحول التاريخي نحو المجتمع الاشتراكي بقيادة «الطبقة العاملة» و»حزبها الشيوعي» كانت أوهاماً زينت للفقراء والمسحوقين بكل زخارف الأيديولوجيا وتمويهاتها، فيما كانت الثروة العربية تتمركز في أيدي النخبة وفيما كانت طوابير الفقراء والمهمشين والجياع تتسع لتشكل الأكثرية الساحقة في المجتمعات العربية، الأمر الذي أكده تقرير التنمية الإنسانية العربية في القرن الحادي والعشرين. وما انتهى إليه الرهان القومي لا يقل حراجة مما انتهى إليه الرهان الاشتراكي. فقد راهن القوميون على وحدة الأمة العربية فوق الاختلافات والتناقضات التي طالما اعتبرت طارئة أو مصطنعة، ليخلصوا إلى صيغ غامضة وملتبسة افتراضية أو وجدانية رومانسية تبرز مدى الغموض والالتباس اللذين لا يزالان يكتنفان المفهوم القومي العربي، حيث لا اتفاق على مفهوم القومية العربية أو مضمونها، ولا تصور موحداً لمقوماتها أو السبل الآيلة للوحدة العربية، وليس من جامع للحد الأدنى من المثل والقيم التي يمكن أن يجتمع حولها العرب لتكوّن المحتوى الروحي للامة العربية الواحدة. ولم يقيض لرهان لبرلة العالم العربي بعد قرابة قرنين على انطلاقته مع أحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني وفرنسيس المراش وفرح أنطون، أن يتسلل إلى النسيج الاجتماعي والفكري للأكثرية الشعبية التي تحيا على الموروث الثقافي التقليدي والميتولوجي، حيث المذهبية والطائفية والقبلية هي التي تتحكم بالدولة، على رغم الخطابات المنمقة التي تدعي الحداثة والعصرنة. في مواجهة إخفاق هذه الرهانات جميعها تقدم الرهان الثقافي مع عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد اركون وأدونيس وهاشم صالح، حيث راهن هؤلاء على إنجاز ثورة ثقافية تطيح الابنية والأنماط الفكرية والثقافية الجامدة والمفوتة كسبيل ناجع لإنجاز المشروع الحضاري العربي العاثر. ومن هنا فإن تحرير الروح الداخلي في رأي هؤلاء سوف يكون الشرط الأول والمسبق للتحرير الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي لكن الثورة الثقافية الموعودة تفاجأ، على عكس تصورات دعاة الخطاب الثقافي، بثورة العصبيات والقبليات التي أعادت المجتمع العربي إلى ما قبل عصر النهضة العربية. على هذه الخلفية المأزومة برزت منذ ثمانينات القرن الماضي إشكالية الديموقراطية في الخطاب السياسي العربي بوصفها الإشكالية المركزية فطرح التحول الديموقراطي وكأنه خشبة خلاص الأمة مما هي فيه من ترد وخلل. وتوالت الأبحاث المخصصة لإشكالية الديموقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان العربي. وعقدت ندوات تناولت الخيار الديموقراطي في غير قطر عربي وأجنبي، وصدر عدد كبير من الأبحاث والمقالات والدراسات في المسألة الديموقراطية. لكن أوهام «الربيع العربي» ووعوده المجهضة لم تلبث أن وضعت الفكر الأيديولوجي العربي وجهاً لوجه أمام أسئلة وتساؤلات مربكة: فهل ما جرى هو فعلاً تحول ديموقراطي أو حرب أهلية؟ وهل من ديموقراطية من دون خلفية ليبرالية؟ وهل الجماهير العربية مهيأة للخيار الديموقراطي في حين هي لا تزال تترنح بين أيديولوجيا ماضوية رافضة للديموقراطية بمفهومها التعاقدي الحديث، وأيديولوجيا حداثية هشة طارئة على العقل والخطاب السياسيين العربيين؟ وهكذا فالواقع المحبط الذي آلت إليه الانتفاضات العربية التي كان يمكن أن تحمل في أحشائها بشرى الخلاص من أنظمة القمع والاستبداد، يسقط الرهان الكبير على الديموقراطية ويعيد الخطاب السياسي العربي من جديد إلى رهاناته التاريخية الخائبة والمستحيلة.

مشاركة :