يخلط بوريس جونسون بين طبيعته كصحافي، وبين وظيفته كرئيس وزراء. ومن الواضح أنه يفشل في الاثنين معا. لا مقاله الأخير (الذي قدمه على التلفزيون من 10 دواننغ ستريت) كان مقنعا، ولا سياساته التي تنشرها له الديلي تلغراف نجحت في تحقيق أي تقدم. الشيء الوحيد الذي نجح فيه هو أنه أصبح ما أصبح عليه، دون أن يسعفه الحظ لا بمواصلة مشروعه للخروج من الاتحاد الأوروبي، ولا في بناء إستراتيجية متينة في مواجهة كورونا. وفي الحقيقة لو كنت مكانه، فإنني كرئيس وزراء لا يكتب مقالات، أو كصحافي لا يتورط بوظيفة أبعد من سقفه المشروع، لكنت قد رفعت سماعة الهاتف لأطلب النصيحة من جاسيندا أرديرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا، لأسألها ماذا يجب أن أفعل لكي أخرج من الورطة. الصحافي يكتب بمقدار من الغموض لكي يتحاشى المزالق. فيضطر إلى التلميح لكي لا يبدو فجا. رئيس الوزراء يفعل العكس تماما. أولا يجب أن يكون شديد الوضوح على الأقل لكي يعرف وزراؤه إلى أين هم ذاهبون. وثانيا فإنه يقدم “تصريحا” تتناقله الصحف باعتباره توجها معينا وخيارا محددا دون آخر. “عودوا إلى أعمالكم، ولكن اذهبوا إليها مشيا أو بالدراجات الهوائية”، هذا كلام صحافي ضاعت عليه المشيتين. وهو ليس سياسة بل مجرد هذيان شخص مصاب بالحمى أو بالدراجات الهوائية. “تجاوزنا مرحلة الخطر، ولكننا لم نتجاوزها بعد”، “يمكن أن نستمتع بالشمس، ولكن مع الحفاظ على التباعد الاجتماعي”، وعلى هذا النحو كل شيء آخر. بريطانيا ثاني أفشل بلد في العالم في مواجهة وباء كورونا بعد الولايات المتحدة. وذلك بنحو ربع مليون مصاب، و40 ألف ضحية. والأيام ستكون شاهدا: عدد الإصابات في هذا البلد لن يقل عن مليون، وعدد الضحايا لن يقل عن 150 ألفا في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة. السبب الرئيسي لذلك هو التأخر في الاستجابة الفاعلة. نوع من “الشمخرة” أو “العنطزة” أو “الزعرنة” أو “التعالي الأجوف” (لا أدري أي المصطلحات أدق) هي التي دفعت حكومة جونسون إلى أن تتباطأ ثم تتباطأ، وكأن الوباء سوف يمر من تلقاء نفسه دون أن يترك أضرارا. الرهان الأول كان يقوم على نظرية “مناعة القطيع” التي ثبت بطلانها من دون أن يستقيل المسؤولون عن الترويج لها، والذين حولوها إلى “سياسة” تعمدت التأخير. هذه النظرية تراهن، ببساطة، على أن المصابين سوف يحصلون على مناعة. ولسوف تشكل هذه المناعة جدارا يصد التفشي ويمنع تحول الفايروس إلى وباء. الرهان الأخير، هو أن تعرف إلى أين تقود الناس؟ أو كم سيفقدون من الضحايا؟ أو ما هي بالفعل الإستراتيجية المطلوبة؟ الحقائق التي أكدتها المختبرات ومنظمة الصحة العالمية تقول الآن إن كوفيد – 19 يمكن أن يعود ليصيب حتى الذين أصيبوا به من قبل. وهو ما يعني أن هذا المرض لا يبني مناعة لأي أحد. وهو ما يعني أن المجتمع سيظل مكشوفا من دون جدار حماية، وأن موجات الإصابات سوف تظل تتوالى. بل وأكثر من ذلك، فإن هذا الفايروس يمتلك قابلية للتحوير بحيث تتغير تركيبته الجينية نفسها ما يجعله أشد خطرا، وما يجعل حتى اللقاحات التي يتم بناؤها على أساس تلك التركيبة عديمة الفاعلية. ثم لم تتمكن الحكومة من توفير معدات الوقاية للجسم الطبي، لا بالكمية اللازمة ولا بالسرعة اللازمة. وهو ما دفع جيشا من الأطباء والممرضين وموظفي الخدمات اللوجستية الأخرى إلى الهاوية. ولئن وعدت الحكومة بإجراء 100 ألف اختبار كل يوم، فإنها لم تحقق ذلك حتى الآن. وهو الأمر الذي جعل الكثير من المصابين يواصلون مخالطة آخرين إلى ما لا نهاية. وهذا ما هو قائم الآن بالضبط. وثمة مقدار جليّ من الفوضى في تنفيذ تلك الاختبارات، إلى درجة أنك لا تعرف من يقوم بماذا، كما لا تعرف من الأساس أين يتوجب لتلك الاختبارات أن تؤخذ، أو ما هي القطاعات الاجتماعية التي يتعين مسحها. “الحفاظ على خدمة الصحة الوطنية”، شعار بدا وكأنه يقول للناس: لا تمرضوا. ولا تحاولوا الذهاب إلى المستشفى. وإذا تعرضتم للإصابة بالفايروس، ابقوا في منازلكم حتى يقترب ملك الموت. وإذا وصلتم إلى المستشفى، فلا توجد أي ضمانات بأنكم سوف تحصلون على علاج. لا يوجد علاج أصلا. والمساعدة الوحيدة هي أجهزة التنفس، وهذه سوف تقدم حسب “أفضليات” ومعايير. هذه المعايير نفسها اتضح أنها، بحد ذاتها، فضيحة لمؤسسة كشفت عن وجه لم يكن مرئيا من قبل. الإحصاءات التي سجلتها هذه المؤسسة حتى 21 أبريل الماضي تشير إلى أنه من بين كل 100 ألف من السكان في إنجلترا هناك 80 وفاة بين من يصنفون كـ”آخرين” وهم بالدرجة الرئيسية مسلمون، وهناك 49 وفاة من السود، و28 وفاة من الآسيويين، وفقط 27 وفاة من البيض، وهناك أيضا 10 من “المختلطين”. وهكذا ففي مقابل وفاة 167 شخصا “من أبناء الجارية”، هناك 27 وفاة “من أبناء الستّ” ذوي العيون الزرق والشعر الأشقر. أي 6 إلى 1، في بلد لا يشكل الأقليون فيه 10 في المئة من مجموع السكان، لتكون النسبة الإجمالية 60 إلى 1. وما لم يكن ذلك شيئا ملفتا وذا معنى، فما الذي يمكنه أن يكون؟ المعنى العملي لهذا الواقع هو أنك إذا دخلت المستشفى وكان اسمك أحمد أو محمود، ودخل إلى جانبك جورج وستيفن، فإن أجهزة التنفس تُعطى بحسب الانتماء العرقي أو الديني، ويُترك الآخرون ليموتوا. تحتاج أن تكون بلدا فاسدا حتى النخاع لكي تتصرف أقدس المؤسسات الإنسانية فيه على هذا النحو. وهناك سبب لذلك. العنصرية في بريطانيا ظلت مهذبة على الدوام. ويعود تهذيبها إلى مشاعر الترفع والقوة والغنى. يكفي أن يخاطبك البريطاني بكلمة “سير” لكي يعني بها شتيمة، حتى وإن كان هو نفسه من أصحاب لهجة الـ”كوكني”، أو حثالة البروليتاريا، فما بالك إذا تصادفت مع واحد من أشباه الطبقة الوسطى، يهينك حتى ولو قال لك: صباح الخير. التهذيب نفسه عنصري، ولكنه يرتدي قناعا. ولقد أزالت جائحة كورونا ذلك القناع، وانكشف الجميع على ضعف وهشاشة، فسارعت مؤسسة الخدمة الصحية الوطنية لتنتسب إلى جذرها الطبيعي. حتى صار بعض أهالي الضحايا يكتبون رسائل لأطبائها الجزارين: أياديكم ملوثة بالدماء. الرهان الأخير، هو أن تعرف إلى أين تقود الناس؟ أو كم سيفقدون من الضحايا؟ أو ما هي بالفعل الإستراتيجية المطلوبة؟ ولكن لا أحد يعرف حتى يصدر عدد اليوم التالي من الديلي تلغراف. لو كان صحيحا أن وباء كورونا يؤثر على القدرات العقلية لبعض من يصابون به، فإن الاضطراب الذهني كان علامة مكشوفة لدى جونسون حتى من قبل أن يظهر وباء كورونا. فهو يتحدث بانفعال، ويستخدم كلتا يديه في التعبير عن نفسه وكأنه ملاكم. ولا يتردد في أن يستخدم من قاموس الصحافة ما يحوّل منصبه إلى عمود أسبوعي مكتوب بلغة فظة.
مشاركة :