ليس في الدنيا مدينة أجمل من البندقيّة وهي متبرجة في الكرنفال يأتيها في خواتيم الشتاء، متأهبة لحدوث الربيع حين تنفض عنها بعضاً من الضباب المتسوّل في الأزقة وفوق الجسور التي تطرّز صدرها السقيم من شدة الرطوبة. تواظب البندقيّة، كعادتها كل عام، على الاستسلام الى الملذّات متنكّرة ومطلقة العنان لواحدة من أرسخ الرغبات عند الإنسان: أن يكون غير ما هو، وأن يُلبس أفعاله غلالة المجهول ويُطلق أقواله تحت جناح الكتمان. وقد ودّعت هذه المدينة أمس الروّاد الذين أتوا للاحتفال والمشاركة في الكرنفال الشهير الذي درج المحتفلون فيه خلال السنوات الأخيرة على إنفاق مبالغ طائلة للتنكر في أزياء تعود تصاميمها الى القرن 18 احتفالاً بذكرى أشهر أبناء البندقية جاكومو كازانوفا، الذي ولد في هذه المدينة عام 1752 وكان كاتباً وشاعراً وفيلسوفاً ودبلوماسياً وجاسوساً ذاع صيته مغامراً عاطفياً وزير نساء. تتضارب الآراء حول الأصول التاريخية لهذا المهرجان التنكري الصاخب. ثمة من يُرجعه إلى العصور السومرية أو إلى قدامى المصريين، وينسب آخرون منشأه إلى الحقبة التي غرقت فيها الإمبراطورية الرومانية في البذخ والإسراف على مشارف الانهيار. لكن الوثائق الوحيدة المثبتة تفيد بأن بدايته تعود إلى القرن الثالث عشر بمبادرة من دوق البندقية استجابة لنصيحة مستشاره بأن يكون للأرستقراطيين وللنبلاء في تلك الجمهورية، التي كانت قد بلغت أوج مجدها ونفوذها لتصبح القوة البحرية الأولى في العالم، عيد ينزلون فيه إلى الشارع ويختلطون بالناس ليعرفوا منهم حقيقة أوضاعهم وآرائهم. يستمر كرنفال البندقية 10 أيام تنتهي مع بداية الصوم عند المسيحيين وانقطاعهم عن استهلاك اللحوم والمنتجات الحيوانية (كرنفال عبارة مشتقة من اللاتينية معناها وداعاً يا لحم!)، ويخرج فيه أهل المدينة كل يوم في مواكب منظمة أو عفوية.
مشاركة :