البندقية تنفض عنها الكآبة وتندفع وراء مهرجان الأقنعة

  • 2/12/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

ليس في الدنيا مدينة أجمل من البندقية، سوى البندقية متبرّجة بالكرنفال، يأتيها في خواتم الشتاء، تائقة لحدوث الربيع، يعرّيها من الضباب المتسوّل في الأزقة وعلى الجسور التي، بالمئات، تطرّز صدرها السقيم من شدة الرطوبة... ومن لوعة تسكنها، مذ وُلدت على غرق موعود. في الكرنفال تنفض «مليكة البحار» عنها سدول الكآبة، وتندفع وراء الأقنعة، جذلة، إلى موعدها السنوي المكشوف مع المحرّمات، لا تردعها حرب ولا تثنيها أزمة، منذ القرن الثالث عشر، عن الاستسلام للملذات، متنكّرة ومطلقة العنان لواحدة من أرسخ الرغبات عند الإنسان: أن يكون غير ما هو، وأن يُلبس أفعاله غلالة المجهول ويُطلق أقواله تحت جنح الكتمان. تتضارب الآراء حول الأصول التاريخية لهذا المهرجان التنكري الصاخب وإنثروبولوجيته. ثمّة من يُرجعه إلى العصور السومرية أو إلى قدامى المصريين. وينسب آخرون منشأه إلى الحقبة التي غرقت فيها الإمبراطورية الرومانية في البذخ والإسراف على أبواب انهيارها النهائي. لكنّ الوثائق الوحيدة المثبّتة تفيد بأنّ بدايته تعود إلى القرن الثالث عشر، بمبادرة من دوق البندقية، عملاً بنصيحة مستشاره الأول، ليكون للأرستقراطيين والنّبلاء في تلك الجمهورية التي كانت قد بلغت أوج مجدها ونفوذها لتصبح القوة البحرية الأولى في العالم، عيداً ينزلون فيه بين العامّة، يقفون منها على حقيقة ما يعتمل من مشكلات ومنازع في المجتمع. وسرعان ما بلغ الكرنفال شهرة واسعة، فبات يمتد من أواسط الخريف حتى بدايات الربيع، وأصبح مقصداً سياحياً مفضّلا عند المسافرين الأوروبيين، خصوصاً النبلاء والأدباء والفنانين والرحّالة، تجذبهم مفاتن البندقية وما تختزنه من تراث فني ومعماري. مع انحسار القوة العسكرية والتجارية لجمهورية البندقية وتراجع نفوذها السياسي، بعد اكتشاف القارة الأميركية وتغيير مسار طريق الحرير، بدأ كرنفال البندقية يفقد من بريقه وجاذبيته، بالتزامن مع ظهور كرنفالات أخرى في البلدان التي نزل فيها البحّارة الإسبان والبرتغاليون مثل البرازيل والمكسيك وكولومبيا. وفي العام 1917 دخل نابليون بونابارت «لؤلؤة الادرياتيك»، ووقف في ساحة القديس مرقس ليصفها مندهشا بأنّها «أجمل ساحة في أوروبا»، لكنّه سارع إلى إصدار أوامره بإلغاء الكرنفال خشية التستر وراءه لتدبير المكائد والمؤامرات، وترك جيشه يعيث نهباً وتخريبا في الجميلة بين المدن الجميلة. بقيت البندقية محرومة من الكرنفال حتى مطالع القرن العشرين، عندما عاد للظهور تدريجياً وفي حلة أقل بذخا، إلى أن قرّرت سلطات المدينة إعلانه رسميا في العام 1979. عيداً يختلف من حيث أناقته الأرستقراطية وطقوسه العريقة المستعادة، عن الكرنفالات الأخرى التي كانت قد انتشرت في العديد من المدن الأوروبية والأميركية اللاتينية وفي طليعتها ريو دي جانيرو. ويتميّز كرنفال البندقية بمستواه الفني الرفيع الذي تشهد عليه الأقنعة الشهيرة والأزياء الفاخرة التي يتنافس الحرفيون والفنانون على تصميمها. يدوم كرنفال البندقية عشرة أيام تنتهي مع بداية فترة الصوم عند المسيحيين وانقطاعهم عن استهلاك اللحوم وزفر الطعام (عبارة كرنفال مشتقّة من اللاتينية ومعناها: وداعاً يا لحم!). ويخرج أهل المدينة كل يوم عند الغروب في مواكب منظمة أو عفوية، يجوبون الشوارع الضيّقة والأزقة، أو يعبرون الأقنية على متن القوارب النحيلة (الجندول) التي اشتهرت بها البندقية فأصبحت رمزا لها، ثم يتجمّعون في الساحات الفسيحة في هرج ومرج حتى الفجر. ومن اللافت في احتفالات هذا العام أنّ بعض العائلات الأرستقراطية والمقتدرة في المدينة، قررت تنظيم مواكب خاصة، أنفقت عليها مبالغ طائلة للتنكّر في أزياء تعود تصاميمها إلى القرن الثامن عشر، احتفاءً بذكرى أشهر أبناء البندقية على مرّ التاريخ «جياكومو كازانوفا» الذي ولد هنا في العام 1725. وكان كاتباً وشاعراً وفيلسوفاً وكيميائياً ودبلوماسياً وجاسوساً، لكنّ شهرته اقتصرت على كونه زير نساء ذاع صيت مغامراته عبر العصور. كل ما في البندقية جاذبٌ للسعادة التي قال عنها جبران إنّها الحزن خلف القناع. لكنّ الأقنعة تكشف أكثر ممّا تخفي، لأنّنا عندما نتنكّر، غالبا ما نختار التخفّي وراء الذات الدفينة التي تبقى سرّ الأسرار. وفي البندقية موئل دائما... للسرّ والسّحر والجمال.

مشاركة :