وضْع سنة 2014 معياراً لقياس حالة فنزويلا يعود إلى أنها السنة التي شهدت اختلالاً في أسعار النفط العالمية، وهو ما انعكس على تلك الدولة التي انهار اقتصادها سريعاً، ومن دون أي مصدات مالية، بل وبديون متراكمة للبنوك الدولية، وكأنها لم تكن يوماً واحدة من أغنى دول العالم! تبرز فنزويلا هذه الأيام كمثال صريح على ما يعرف في الاقتصاد بـ «فخ الثروة»، أي وقوع الدول التي تحتوي على ثروة من الموارد الطبيعية أغلبها غير متجدد كالمعادن والنفط، في نتائج تنموية واقتصادية ومعيشية أسوأ بكثير مقارنة بقدراتها المالية الهائلة. ففنزويلا، التي تعيش هذه الأيام أزمتها السياسية العميقة الناتجة عن تدهور أوضاعها الاقتصادية بشكل مريع منذ نحو 4 سنوات، تعتبر سادس أكبر احتياطي نفطي في العالم. والدول الغنية سابقاً في منطقة أميركا الجنوبية، والتي تعتمد في ميزانياتها السنوية على إيرادات النفط بشكل يشبه معظم اعتماد دول الخليج عليه وتحديداً الكويت بنسب تتجاوز 90 في المئة من الدخل، ليست النموذج الوحيد في العالم لـ «فخ الثروة»، فثمة نماذج متعددة في العالم، حاضراً أو في الماضي القريب، تشير بشكل واضح إلى أن سوء إدارة الثروة يؤدي في نهاية الأمر إلى الانهيار أو على الأقل الأزمة العميقة. مرض هولندي ولقاح نرويجي فمثلا، أدى اكتشاف هولندا كميات قياسية من الغاز الطبيعي عام 1959 إلى بروز مصطلح المرض الهولندي خلال سنوات قليلة بعدما نما قطاع الطاقة فيها بشكل كبير مقابل انخفاض بقية قطاعات الإنتاج والتجارة والصناعة، وما ترتب على ذلك من ارتفاع البطالة وتراجع النمو الاقتصادي وانحراف الإنفاق العام، قبل أن تعيد أمستردام توازن اقتصادها لاحقاً بفضل وجودها في محيط أوروبي يستطيع بفضل جودة الإدارة معالجة كبواته، وهو ما تلافته النرويج في منتصف التسعينيات عندما وجهت جميع إيرادات النفط إلى صندوقها السيادي- الأضخم في العالم حاليا- فأخذت «اللقاح» كي لا تواجه لاحقاً أعراض المرض الهولندي. الفخ في نماذج غير أن فخ الثروة إذا ارتبط مع سوء الإدارة، وربما عدم الاعتراف بالأزمة وأعراضها، يمكن أن يأتي بالنتائج الأسوأ، وهنا يمكن الحديث عن دولة أخرى مصدرة للنفط وعضو في «أوبك»، وهي نيجيريا التي ساهم تركّز الثروة لدى فئة قليلة من شعبها في حدوث اضطرابات أمنية وأعمال عنف تستهدف السيطرة على حقول النفط وخطوط الإنتاج والتصدير، حتى انخفضت حصتها التصديرية في السوق. وكذلك أنجولا، التي سجلت ثروات قياسية بعد عام 2005 من إنتاج النفط، دون أن ينعكس ذلك على أي مؤشر تنموي فيها، لا في التعليم ولا الصحة ولا البنية التحتية، في حين تصدرت لائحة الدول الأكثر وفيات للأطفال والأمراض المعدية. وغير بعيد في «أوبك» نجد العراق التي يمتاز بثرواته الطبيعية، فضلاً عن العوامل السياحية والزراعية، والذي يعيش شعبه أدنى مستويات الفقر في العالم لأسباب متنوعة، منها العنف والانفلات الأمني والفساد المالي وسوء الإدارة وانحراف سياسات الإنفاق عن مقاصدها السليمة، ويكفي أن نعلم أن بلاد دجلة والفرات أعلنت العام الماضي تقليص المساحة المزروعة بالقمح إلى النصف في موسم الزراعة 2018- 2019 في ظل شح المياه الذي تعانيه! وفخ الثروة مثلما قدم أمثلة بالطاقة، أي النفط والغاز، فإن لدول المعادن منه نصيباً، فنذكر جزيرة ناورو التي كانت واحدة من أغنى دول العالم بفضل الثروة المفاجئة من مناجم الفوسفات، وكانت الحكومة فيها بارعة في تبديد الثروات والفوائض وعدم استثمار الثروة المفاجئة في صناعة اقتصاد مستدام حتى نضب الفوسفات، وانتهى المطاف بتحول الجزيرة إلى واحدة من أكبر شبكات غسل الأموال والتهرب الضريبي، فضلاً عن قلة الأراضي الصالحة للسكن بسبب الحفر الجائر لاستخراج الفوسفات. سياسات غير رشيدة وعودة لعرض نبذة مما حدث في فنزويلا، فقد أدت سياسات اقتصادية غير رشيدة في عهدَي الرئيسين تشافيز ومادورو إلى حدوث ما يعرف بـ «التضخم الجامح»، الذي يصعب قياسه، لبلوغه أرقاماً فلكية تصل أحياناً إلى مليون في المئة مع تضاعف أسعار المواد الغذائية إلى 100 ضعف ما كانت عليه عام 2014، ونقص لافت للأدوية، وتراجع القدرة على الاستيراد مع استهلاك نحو 90 في المئة من احتياطي العملات الأجنبية وانخفاض إنتاج الدولة للكهرباء بنحو 88 في المئة مقارنة بعام 2014، والتوجه إلى طباعة كميات كبيرة من النقود في النظام المالي دون مبرر حقيقي للسياسة النقدية، واستهدفت هذه الأموال صرف هبات ومعونات وزيادات اجتماعية ووظيفية للمواطنين بغية ضمان نجاح الرئيس مادورو في الانتخابات، حتى اختفت في الأسواق، خلال أشهر قليلة، معظم المواد الأساسية المدعومة، وخصوصاً الغذائية والاستهلاكية، فعادت الحكومة الفنزويلية مجدداً إلى طباعة كميات أكبر من النقود حتى قررت شركات طباعة أوراق النقد المعتمدة عالمياً وقف طباعة العملة الفنزويلية (البوليفار)، لتعثر الحكومة في سداد قيمة الطباعة، فواصلت طباعة العملة محلياً دون التفات لضوابط السياسة النقدية والنتائج على التضخم الذي بلغ مستويات خيالية. ولعل وضع سنة 2014 معياراً لقياس حالة فنزويلا، يعود إلى أنها السنة التي شهدت اختلالاً في أسعار النفط العالمية، فانعكس ذلك على هذه الدولة التي انهار اقتصادها سريعاً ومن دون أي مصدات مالية، بل وبديون متراكمة للبنوك الدولية وكأنها لم تكن يوماً واحدة من أغنى دول العالم! الخليج والكويت لا شك أن نموذج «فخ الثروة» في فنزويلا يشبه العديد من النماذج في منطقة الخليج، وتحديداً الكويت، ليس فقط من حيث الارتفاع القياسي في نسبة الاعتماد على النفط، بل كذلك من ناحية استهداف حكومتيهما البقاء بأي ثمن ولو على حساب الاقتصاد والتنمية، وهو ما جعل حكومة الكويت تغيّر رأيها أكثر من مرة في آخر مناسبة تصلح للمثال، وهي قانون التقاعد المبكر الذي أقره مجلس الأمة بموافقة الحكومة بكل ما فيه من تشوهات مالية وإدارية وعمالية، فضلاً عن اعتبارهما، أي الكويت وفنزويلا، ومعهما دول الخليج، الاستدانة خياراً لسد النفقات الاستهلاكية التي لا تعطي أي عوائد اقتصادية أو مالية للدولة، فتتحول مع سوء الإدارة إلى فخ جديد، مما يكشف الاتجاه الحقيقي نحو الحلول السريعة القصيرة المدى، التي تعزز أخطاء الماضي، ولا تهتم كثيراً بما سيحدث في المستقبل.
مشاركة :