عباس بيضون: الشعر فكر خاص

  • 2/7/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بعد طول تجربة عميقة له مع الشعر، كتابةً وتنظيراً، توصّل الشاعر والروائي اللبناني عباس بيضون إلى نتيجة تقول إنّ الشعر فكر.. وفكر خاص. وهذا الفكر ليس مستقى من مصدر، أو منقولاً عن مرجع، أو ترجمة لأفكار مطروحة، بل هو فكر مستقل بماهيّته وشعريّته أيضاً. ولا يمكن لعباس بيضون في النتيجة أن يتصوّر قصيدة بلا فكرة أو أفكار عدة؛ وأن فكرة القصيدة يلتقطها القارئ الحاذق في أثناء قراءته للقصيدة أو بُعيد هذه القراءة. وهكذا تتنوّع القصائد بتنوّع أفكارها وأسئلتها الشعرية. وعندما يقول شاعرنا بأنّ الشعر فكر خاص، فهو لا يعتمد هنا على كمّ الفكر البحت في الشعر، ولا يطلب من الشاعر أن يكون مفكراً، أو شارحاً لنظرية فكرية؛ جلّ ما يستهدفه هو التوضيح بأن للشعر طريقته الخاصة بالتفكير وتأويل التفكير، بمعنى أن الشعر هو تململ الفكر أو هو صيغة احتمال الفكر الذي له بالتأكيد فرادته ورؤاه. ومن هنا نرى شاعرنا يستشهد بالفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الذي يقول إنّ الشعر نوع من احتمال الحقيقة أو التململ بها أو بشوقها للخروج، ودائماً عبر لغة الشعر الكياني العظيم، التي هي بيت الوجود كلّه. هنا حوار بانورامي مع الشاعر والروائي عباس بيضون (مواليد صور اللبنانية في العام 1945) الذي حاز جائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الحادية عشرة 2016 – 2017 عن روايته «خريف البراءة». وقد نقلت بعض أعماله الإبداعية، الشعرية منها والروائية، إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية. وفي هذا الحوار الذي تناول موضوعات شعرية ونقدية وتقويمية شتى، كان الشاعر فيها، كما العادة، جريئاً، واقعيّاً وخصوصاً تجاه كلامه على التحوّل المفصلي الذي أحدثته فيه تجربة الشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس. في ما يلي تفاصيل الحوار: التجريب والافتتان * عباس بيضون أنت شاعر تجريبي.. إلى أين أوصلك التجريب الشعري في آخر تجليّاتك معه اليوم؟ ** قد يكون التجريب الشعري وسيلة مفتوحة من وسائل الشاعر المستغرق في الرؤية و»الافتتان» الخصوصي بها. فهو ينتقل من تجريب إلى تجريب، ومن أفق لغوي شعري إلى آخر، بحيث أن كل مجموعة شعرية جديدة له تحتوي، بالضرورة، على قسط من المجازفة الجديدة، أو النًفَس الجديد، أو اللغة الجديدة. ومن هنا ترى مجموعاتي الشعرية مختلفة ومتباينة، وإن كان لدى بعض أصدقائي الرأي بأنني أمتلك لغة شعرية واحدة. باختصار، أظنّ أنّ قدراً من التجريب يلازم الشاعر الجدّي أو الكتابة الشعرية الجدّية بوجه عام، فنحن نكتب لنكتشف الكتابة باستمرار أو لنقيم علاقات متغيّرة معها باستمرار. وهنا على ما يبدو يكمن سرّ تدفق الأسئلة الشعرية الخاصة بالشعراء وانطلاقها في فضاء هذا العالم، الذي لا يستقر على وجهة واحدة، حتى ولو خُيّل إلينا عكس ذلك. وعلى الرغم من هذا كله، فإن التجريب ليس غاية بحد ذاته. إنه بقدر ما تفاعل ذاتي جديد مع اللغة ومع الموضوع ومع الرؤية. بوجيز العبارة، أنا من الذين يضجرون من تكرار كلماتهم، وهذا ما قادني يوماً إلى التوقف عن كتابة الشعر. فبعد قصيدتي المطوّلة: «صور»، وهي نشيد ملحمي كتبته في العام 1974 ونشرته في العام 1975، دهمتنا الحرب الأهلية اللبنانية، التي لم يعد فيها متسع لكتابة ملحمة أو نشيد شعري، فانقطعتُ عن كتابة الشعر مدة تجاوزت الخمسة أعوام، إلى أن اهتديت إلى عالم يانيس ريتسوس، الشاعر اليوناني الكبير، والذي فتحت لي قصائده أفقاً جديداً للكتابة الشعرية عاينته بانجذاب وشغف، وترسمّته قطعاً، بلغة شعرية مغايرة وبالغة الخصوصيّة. * حدثنا عن هذا الفتح الشعري الذي قدمته لك تجربة «المعلم» ريتسوس؟ أيّ فضاء مغاير وضعك فيه هذا اليوناني العظيم، وحرّضك على استئناف الكتابة الشعرية بعد توقف طويل؟ ** في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وقبل أن أقرأ شعر ريتسوس، كان العالم بالنسبة إليّ قد ضاق بالمعنى المادي للكلمة. كنت أهرب من الخارج إلى الداخل، ملازماً الجدران ومنحشراً بين ضيق مساحاتها؛ وعليه لم يعد الزمن لديّ، وقتها، زمناً شاسعاَ وحافلاً ، بل صار فُتاتاً ووقائع متناثرة، وباتت الأشياء والتفاصيل، هي من يشكّل مكوّنات عالمي المستجدّ؛ وعليه لم يعد بوسعي أن أكتب بلغة إنشادية عريضة تناظر الأفق العريض. هكذا، وبعدما قرأت شعر يانيس ريتسوس، وجدت لديه جواباً شافياً عن أزمتي؛ فهو شاعر التفاصيل والأشياء الصغيرة، يصنع منها عالماً هائلاً، وفي الوقت نفسه ينسج علاقات سجالية متفوّقة مع المطلق. إنه، استطراداً، يبني من دقائق الأمور كوناً شعرياً موازياً. وأنا تعلمت منه بناء تلك المعادلة الشعرية، الحافلة بالأشياء والتفاصيل واليوميات والسرد أيضاً، وانخرطت بعدها في مسار كتابة شعرية جديدة، قاعدتها الجزئيّات وأفقها الفضاءات بحالها. * أفهم إذاُ أنك «استنقعت» كليّاً بالتجربة الريتسوسيّة، عمقاُ وفضاء؟ ** من ميزات ريتسوس العظيمة، أنه يعلّمك ألّا تكون «ريتسوسيّاً»، وعليه ليست صلتي به هي صلة نسخ أو تقليد أو نقل. ريتسوس شاعر يوقظ في قارئه (وأنا أتكلم هنا عن نفسي) استعدادات أجوائيّة غير متوقعة، تحيل إلى نوع من شعرَنَة خاصة للعالم مفرطة التكثيف والفرادة. إنه، من جانب آخر، يوجد مقابلاً شعرياً استثنائياً للكلمات وعلاقتها بالأشياء المهملة. هذا ما رسمه ريتسوس أمامي كقارئ وحرّضني، بالتالي، على استئناف جو آخر من كتابة الشعر والتجريب فيه. * الشاعر محمود درويش، وفي حوار لي معه في أواخر التسعينيات من القرن الماضي قال وبكثير من الجرأة «إن ريتسوس هو الذي أنقذني من تكرار تلك الغنائية المعلنة والمبطّنة التي ما انفكت تهيمن على تجربتي الشعرية، فانصرفت عنها إلى شعريّة التفاصيل اليوميّة والتشاكيل البصرية».. ما تعليقك؟ ** أستطيع أن أتفهّم بعمق ما قاله محمود درويش، وكلامه هذا، في رأيي، يشكّل شهادة واثقة، راسخة تُحسب لشعريته ولغتها المتحركة، لا عليها. ريلكه، ويتمان وإيليوت * علاوة على يانيس ريتسوس، من هم الشعراء الذين شكّلوا مرجعيتك الإبداعية النافذة؟ ** انجذبت بقوة إلى فضاء شعراء كبار في العالم من أمثال الألماني راينر ماريا ريلكه، والأميركي وولت ويتمان، والفرنسي بيار جان جوف، والبريطاني ت. س. إيليوت على وجه التخصيص. ولا أظنّ أن شاعراً عالميّاً مهمّاً في عصرنا مررت عليه هكذا مرور الكرام. كانت قراءاتي للشعر والشعراء، في الحقيقة، جزءاً من عملي ومن كتابتي. وكان آخر الشعراء الذين استوقفوني (تجربةً وإنساناً)، السويدي توماس ترانسترومر (نوبل للآداب – 2011). وتشاء المصادفات أن أتعرّف إليه شخصياً قبل أن يشتهر ويفوز بجائزة نوبل للآداب، وذلك عن طريق صديقة سويدية تدعى بريجيت وارين، تصدر مجلة أدبية اسمها «كارافان». وقد حرصت الصديقة السويدية على أن تطلعني على شيء من شعره، فأرسلت لي مجموعة شعرية له مترجمة إلى الفرنسية وصادرة عن دار غاليمار. ولقد جعلتني هذه المجموعة أقف على صوت شاعر كبير ميزته الساطعة أنه يمتلك قصيدة خاصة به. ولقد أثارني الأمر، كوني ومنذ فترة طويلة لم أقع على صوت شعري استثنائي ومفارق. وكان من حسن حظي أنني التقيت بالشاعر توماس ترانسترومر نفسه عندما جاء إلى لبنان منذ عشر سنوات، وجلسنا مطولاً وبصحبتنا شخص لبناني يتقن السويدية لتسهيل أمور المحادثة والنقاش. أما هو فكان يجلس على كرسي طبّي نقّال، ولا يستطيع الكلام، كونه كان مصاباً بفالج في الجهة اليمنى من جسده، وبحبسة شديدة في النطق؛ غير أن لغة الإشارات والأصوات بينه وبين زوجته، كانت هي لغة التواصل والتفاهم بيني وبينه. وهكذا بدأت أسئلتي بالعربية تتدفق له عبر المترجم اللبناني الذي كان ينقلها إلى السويدية، وتتولى زوجة الشاعر نقلها إليه «بلغتهما المشتركة»، ويجيب عنها ترانسترومر بإشارات وأصوات تتولى الزوجة بدورها نقلها إلى السويدية أمام مسامع المترجم اللبناني، الذي بدوره كان ينقلها إليّ بالعربية.. هكذا عبر عملية حوار معقدة بعض الشيء، لكنها كانت مفهومة ومكللة بالنجاح. * ماذا دار بينكما بإيجاز شديد، شعرياً وثقافيّاً؟ ** الحديث مع الشاعر ترانسترومر كان أشبه بمسرحيّة عصيّة على التصنيف، لكنها كانت بشكل عام تتفجر بالشفافية والرقة.. والإنسانيّات عموماً. فوداعة هذا الشاعر وتقبّله لمرضه المحرج والصعب، حَفَرا فيّ عميقاً؛ فلقد شاهدت أمامي رجلاً نصف ميت، نصف حي، ومع ذلك، فهو جسور ومصمّم على الحياة والإنتاج الإبداعي، مهما كان عبء الإعاقة الجسدية عليه باهظاً ومشلاً. وأذكر أنني سألته سؤالاً مستمدّاً من مقدمة مجموعته الشعرية المترجمة إلى الفرنسية. والمقدمة تقيم توازناً بين ترانسترومر الشاعر وترانسترومر المختص بعلم النفس (هو بالمناسبة طبيب نفساني وعمل لفترة طويلة في معهد البسيكوتكنيك في جامعة استوكهولم). رفض هو طبيعة سؤالي المركّب الذي يجمع بين المسألتين: الشعرية والعلم/‏ نفسانية، قائلاً إنّ ما يهمّه الآن هو علم الأديان، فبين الشاعر وعلم الأديان وشائج روحيّة وخياليّة أكبر وأعمق من أن تُعرّف أو تُحدّد، وذلك على الرغم من نزعته العلمانية الصارمة هو كفرد. ومن هنا وجد نقاد ودارسو الشاعر توماس ترانسترومر هذا الميل الصوفي شبه الطاغي لديه، خصوصاً في مرحلة أشعاره الأولى، حيث كان أسلوبه استبطانيّاً غنيّاً بالاستعارات والصور «الشطحيّة النقيّة»؛ لكنه انتهى في ما بعد إلى أن يكون شاعر قصيدة الأشياء اليوميّة السهلة والمستحوذة في الوقت نفسه على العمق الفلسفي. وما لفتني أكثر في لقائي اليتيم معه، زوجته، تلك السيدة العصامية الممثلة بالفعل لروحه وشعريته. كانت أشبه بقصيدة حيّة متحرّكة تنطق بلسانه وبطاقاته الإبداعيّة المتفجرة من قلب محنته الحزينة المؤسفة. لقد روى لي ترانسترومر بلغة الإشارة والصوت المتلعثم، كيف تمكّن بمساعدة مونيكا (زوجته) من إخراج واستخراج ديوانه الشعري «الجندول الحزين»، والذي حقق انتشاراً غير مسبوق على مستوى بيع كتب الشعر وتوزيعها في السويد خصوصاً، والاتحاد الأوروبي عموماً. أما مونيكا، فأفادتنا بأنها تفخر بزوجها توماس، ليس كشاعر فقط، وإنما كموسيقي أيضاً، فهو يعزف على البيانو بيد واحدة، هي اليد اليسرى، وعزفه يضارع - كما قالت - عزف كبار اللاعبين المبدعين على هذه الآلة الموسيقية الراقية. بين الشعر والرواية * قلت مرة إن الشعر عمل خانق، بينما الرواية هي الأرحب والأفسح، وأن التجريب فيها يظل أكثر عملانية وملاءمة من القصيدة.. فهل تميل أنت إلى أن تكون روائياً أكثر من كونك شاعراً؟ ** أظن أنني شاعر بالدرجة الأولى؛ وكتابتي للرواية لا تلغي هذا اللقب، حتى ولو تحصّلت على لقب آخر هو: الروائي. وعلى أي حال، لست أنا الأول بين الشعراء، ولن أكون الأخير، الذين زاولوا كتابة الرواية، عربياً وعالمياً. وعليك ألا تنسى أن عدداً من الروايات الكبرى وذائعة الصيت في العالم، كتبها شعراء، فاتحين بذلك حدود الفضاءات على مصاريعها بين القصيدة والسرد الروائي، منسجمين بذلك مع ما تتطلبه ديناميّات الإبداع فيهم. لكن، مع ذلك، يظلّ هذا الفارق الخصوصي قائماً بين الرواية والقصيدة. فالشعر، مثلاً، يفترض التركيز والتكثيف والتلميح الخاطف، بينما الرواية هي عالم فسيح واستطرادي، يستطيع كاتبها الإلمام بمختلف التفاصيل القريبة والبعيدة. وتقنيات الرواية تخوّل كاتبها أيضاً احتواء كل الأجناس الأدبية، عكس الشعر الذي لا يقول إلا نفسه ونصّه الخصوصي المحض. في نهاية المطاف، يظلّ الشعر بالنسبة إليّ عبارة عن قول آخر، مضمر إجمالاً ومتمادٍ باللعبة الداخليّة.. الشعر يقول العالم من منصّة تختلف كثيراً عن منصّة الرواية، فهو لغة إشارية وفكر خاص، بينما السرد الروائي لا يصل إلى ذلك إلّا في بعض مواضعه. طبعاً، ثمة روايات فيها من الشعر ما يفوق الكثير من القصائد. «رباعية الاسكندرية» للبريطاني الشهير لورنس داريل مثلاً، فيها من الشعرية الشيء الكثير، وذلك على امتداد الروايات الأربع المؤلفة للعمل: «جوستين»، «بلتازار»، «ماونت أويف» و»كليا»، والتي يمكن قراءتها بالتتابع، أو قراءة كل رواية منها على حدة، من دون العودة إلى الترتيب التأليفي العام القائم لها. ولورنس داريل الذي كتب عدداً كبيراً من الروايات، هو في المناسبة شاعر أيضاً، وضع أكثر من 10 دواوين شعرية. وقد وظّف الشعرية في «رباعيّته» على نحو جاذب ونابع من خلاصة ذاتيته كشاعر. ولكن، حتى في كتابات سردية روائية مضبّبة بالشعرية كـ»رباعية الإسكندرية» وغيرها من روايات، يظلّ الكلام فيها مرتبطاً بدوافع كاتبها السردية الإخبارية «الصارمة» والمختلفة عن دوافعه كشاعر يكتب القصيدة، التي توشك الكلمات فيها أن تتحوّل إلى إشارات وعلامات لها نظامها الخاص. فكرية الشعر * يقال إن الشعر تحوّل إلى نوع من المعرفة.. ما تعليقك؟ ** الشعر بالنسبة إليّ فكر، بمعنى أن للشعر فكره الخاص، وأن هذا الفكر ليس مستقى من مصدر أو منقولاً عن مرجع أو ترجمة لأفكار مطروحة. وهذا الفكر الخاص ليس هو ماهيّته فقط، وإنما هو أيضاً شاعريته. وهكذا، لا يستطيع الشعر في تركيزه وكثافته أن يكون سارداً أو مُخبراً أو مُجادلاً. واستطرد فأقول إن الشعر نوع من احتمال الحقيقة كما يقول هايدغر. إنه صيغة ما للحقيقة؛ وهذه الحقيقة هي في منتهاها تبقى تحت الحقيقة، أو تبقى هي تململ الحقيقة وشوقها للخروج. في المدرسة الأدبيّة الأميركيّة، ثمة ما يُدعى بـ»الشعر الموضوعي»، أي الشعر الذي يتجنّب الغنائية ولا يعتبرها من خصائص الشعر العظيم والاستثنائي. وأن الشعراء الكبار، في رأي جماعة «الشعر الموضوعي»، هم المفكّرون الكبار. وأنا لست من هذا الرأي طبعاً، لكنني أجد أن الشعر، سواء أكان موضوعياً أم غير موضوعي، هو نوع من الفكر.. الفكر الخاص به؛ ولا يمكنني في المحصّلة أن أتصور قصيدة بلا فكرة أو عدة أفكار. وفكرة القصيدة يلتقطها القارئ الحاذق في أثناء قراءته للقصيدة أو بُعيد قراءته لها. * عربياً، هل تعتبر أدونيس شاعر «شعريّة الفكر»؟ ** أدونيس في رأيي هو من الشعراء الذين يزداد مع الوقت تقديرهم للفكر في الشعر، خصوصاً في قصائده الطويلة. وأظنّ أنّ ثقافته الفلسفية في الأساس، ساعدته على أن يكون كذلك، انطلاقاً مما يقال في الأدبيّات الفلسفية، إنّ تفكير الفلاسفة الأوائل كان ذا طبيعة شاعرية أيضاً. وكان أدونيس، من جهة أخرى، مقدّراً، وعلى نحو عميق، للشاعرين أبي العلاء المعري والمتنبي، باعتبارهما من كبار الشعراء العرب المفكرين، أو بالأحرى الشعراء الذين في شعرهم مكانة واسعة للفكر. وأنا عندما أقول إن الشعر هو نوع من الفكر، فلا أعتمد هنا على كمّ الفكر البحت في الشعر، ولا أطلب من الشاعر أن يكون مفكّراً أو شارحاً لنظرية فكرية. جلّ ما أستهدف توضيحه هو القول بأن للشعر طريقته الخاصة بالتفكير، بمعنى أنه تململ للفكر وما تحت الفكر، أي أن الفكر في الشعر هو صيغة احتمال لفكر مستقل وفريد. لذا تراني وقد استشهدت بهايدغر الذي يقول إن الشعر احتمال الحقيقة؛ وأن اللغة تتكلم عبر الشاعر الكبير، انطلاقاً من أنها بيت الوجود كله. وفي المناسبة، أنا بصدد كتابة رواية جديدة لم أضع لها عنواناً بعد؛ لكنني ابتكرت لها بطلاً شاعراً، وهذا الشاعر/‏ البطل يتكلم عن الشعر أو الشعرية بما يشبه الكلام الذي سقته أو شخّصته لك الآن. * ماذا تقول في شعر «ما بعد الحداثة»، وكيف تعاطيت مع ظاهرة المابعديات على اختلافها؟ * شخصياً أفهم «ما بعد الحداثة» في الشعر والسرد الأدبي، على أنها عملية انخراط للشاعر في أنماط عدّة: شعرية وأدبية ونقدية وفنية وفكرية وفلسفية وسياسية وثقافيةً «دفعة واحدة»، إن بصورة متنافرة أحياناً أو متماسكة أحياناً أخرى، هكذا في مشهدية دمجيّة متناقضة لا يستطيع أحد أن يضبطها، حتى صانعها نفسه. وكذلك أفهم «ما بعد الحداثة» على أنها إقامة رؤى أو شظايا رؤى مختلفة في الزمان والمكان، وهي دائماً تبدو وكأنها بلا بدايات ولا نهايات منسّقة. كما أن «ما بعد الحداثة» تشكّل رفضاً لنخبوية الأدب والشعر واقتراباً أكثر من الهامشي والمبتذل والعامي.. وأرى رموزها يميلون بعد إلى اللعب والتهكّم والنزوع إلى الفن الشعبوي وتحطيم كل بنى فنية «راقية ومتعالية». ولا بدّ من ذكر أنّ الناقدة اللبنانية مي غصوب (وهي الأولى بيننا في لبنان لجهة الاتصال بـ«ما بعد الحداثة»، طرحاً ونقداً) كانت قد صنّفت قصيدتي المطوّلة «صور» على أنها تنتمي إلى فضاء «ما بعد الحداثة»، لا لشيء إلا لأنها تجمع بين الإنشادية والواقعية. وأنا لا أستطيع أن أجزم نقدياً في هذا الأمر، كون «ما بعد الحداثة» ليست في مدار تفكيري أو غرضي من الكتابة عموماً. * وماذا تقول في تجربة الشاعر العراقي فاضل العزاوي، الذي كان في رأيي الشخصي، أوّل من خوّض شعرياً وسردياً، في مدارات «ما بعد الحداثة» عربيّاً، وكان مميزاً ومتفرداً في ذلك؟ ** بلى، صحيح ما تقوله. لقد فاتني الكلام على تجربة فاضل العزاوي الشعرية والسردية، والتي كان لها وقعها وصداها حين كنّا نقرأها في مجلة «مواقف» في بدايات السبعينيات من القرن الفائت. لكنّني أظنّ أن شعراء عرب آخ رين أيضاً لم يقفوا، بدورهم، عند المعنى الغربي للحداثة، وكانت الأمور لديهم بمثابة ثمرة لتطور ثقافي ذاتي عام ومتجدّد على مستوى النظريتين الشعرية والنقدية بصورة عامة. نعم، لقد اخترع الشعراء العرب حداثتهم في نهاية الأمر، ودمجوا بينها وبين التراث أحياناً. كما دمجوا الأمكنة بالأزمنة وأمعنوا تفكيكاً بهما لرؤيتهما من جديد شظايا متداخلة، منحلّة في البنيّة النصيّة التعدّدية الواحدة. كما احتفوا بتوظيف الصورة (بما فيها الشخصية) في السرد الشعري، وذهبوا إلى ما وراء اللغة باستخدام لغة تحطّم كل ما عداها، والهدف، ربما، إيجاد شكل شعري جديد عصيّ على التقليد والتكرار والبهوت. لقد قدموا باختصار كل ما يمكن أن نسمّيه حرب الشعر بالشعر والانطواء على المعاني الأخرى في ما وراء المعنى. لقد سخِروا وتهكّموا وتوهجوا بمفرداتهم وتراكيبهم.. واستطراداً بقصائدهم كما يحلو لهم. وهذه الحداثة الشعرية العربية وقتها قد تكون قريبة من «مابعد الحداثة» الشعرية والأدبية، التي يجري الكلام عليها مطولاً اليوم. في الخلاصة، أظن أنّ شعر فاضل العزاوي أو حتى شعر محمد الماغوط المغاير له، ينطويان على التهكّم والسخرية وقلب الأشياء.. وكذلك على مجانيّة قد تناسب بالفعل شعر «ما بعد الحداثة». * وماذا تقول في تجريبية محمود درويش، بخاصة بعدما تخفّف في مراحل سنوات إنتاجه الأخيرة من أثقال شعرية نمطية كثيرة، كانت مثار حساسيّة ذائقته وشكواه هو في المقام الأول قبل النقاد المميزين الآخرين؟ * بعد خروجه من لبنان في العام 1982، شكّلت مجموعات محمود درويش الشعرية: «ورد أقل»، «لماذا تركت الحصان وحيداً؟»، «أحد عشر كوكباً».. وما تلاها طبعاً، مرحلة أخرى وجديدة في مسيرته الشعرية، كان هو بالفعل واعياً لها في العمق ومصرّاً على تدفق أسئلتها وانفجار بنياتها ومعانيها وصورها، إلخ.. وخصوصاً من خلال تمسكه الصارم بعدم العودة إلى أساليب ومناخات شعره السابقة. وتتميّز المرحلة الدرويشية الجديدة بتخلصه النهائي من الأيديولوجيا لحساب الشعرية ومساراتها الرؤيوية الحرة فيه، ولكن ليس، بالمقابل، على حساب فلسطينيته التي ظلّت هي محوره الملتهب إلى آخر يوم من حياته. كما تتميّز مرحلته الأخيرة بالنسج على العادي واليومي وملاحقة الأشياء والتفاصيل، حتى الدقيقة منها والمهملة، هكذا في تركيز حساسيّ جديد، يعزّز من شأن المرئي فيه على اللامرئي . باختصار، كان محمود درويش يبدو وكأنه يكتب على الدوام قصيدة الغد. مصير الشعر * يتحدثون ومنذ مدة ليست ببعيدة عن موت الشعر.. أنت ماذا تقول؟ ** مثلما انتهت الملحمة كغرض، والسيمفونية كغرض، فإن الشعر مهدّد أيضاً كغرض وكنوع. على أن الشعر، في رأي آخرين، قد يتجاوز مسألة التهديد هذه ليستمرّ في فنون أخرى.. في الغناء مثلاً، وقد يتجدّد الشعر على طريقته (كما هو قائم أصلاً) أكثر فأكثر في الرواية أو القصة أو اللوحة أو السينما... إلخ. لكن علينا أن نعترف أنّ نصّاً شعرياً على هذا القدر من التركيز والكثافة والإشارة (كما عهدناه)، لم يعد يجد قارئاً له إلّا في حدود ضيّقة. أظنّ أنّ ما أصاب الشعر من تراجع وانحسار، هو بداية لما سيصيب الفنون كافة. فمن المؤكد يا صديقي أننا انخرطنا، حتى الجمام، في عصر «الميديا» و»السوشيال ميديا»، أي في عصر جماهيرية الثقافة، ولم يعد هناك مكان لإبداعات نخبوية وفنون نخبوية. الأرجح أن ما سيبقى ويسود، هو تلك الفنون الشعبويّة أو الجماهيرية، وهذا ما سيفضي بنا فعلاً إلى أجواء وسياقات «ما بعد الحداثة» بكل نظمها الأسلوبية المتشاكلة والمفرفطة، والتي تجعل من «المفهوم» ونقيضه حالة متلازمة واحدة. * ولكن الشعر الحقيقي، لم يكن يوماً إلّا نخبويّاً؟ ** هذا صحيح، لكننا نتحدث عن ظرفيّة زمنية مختلفة للشعر.. نتحدث عن الشعر في الزمن الديجيتالي المعقّد اليوم. وأعتقد أن هذا الفن المكتوب والمنطوق، سيظلّ مهدّداً في رأيي، وللدواعي والتطورات التي تحدثنا عنها. * يلاحظ على مستوى المشهد العام للإبداع الشعري في عالمنا اليوم، خصوصاً في فرنسا وأوروبا، أنّ ثمة تراجعاً ملحوظاً.. والأمر عينه ينطبق على النظرية النقدية أيضاً.. ماذا تقول؟ ** كل ما يمكنني قوله حتى الآن، إنّ صلتي بالتجارب الشعرية الجديدة (ومعها النقدية بالطبع) باتت قليلة نسبياً، مقارنة بالسابق. وبناء على ذلك، أرى أن إجابتي هنا لن تكون مقنعة أوموضوعية. إلا أنني، وبعدما حضرت مهرجاناتٍ أدبية وشعرية عديدة في غير مكان في أوروبا وخارجها، بدأت أقع على حضور ما لشيء اسمه «الشعر الرقمي» أو الإلكتروني. وشعراء هذا النوع من الشعر ليس لهم حتى الآن أي ميراث سابق يُعتدّ به.. هذا من جهة. من جهة ثانية، لا أدري ما إذا كان هذا النوع من الكتابة الشعرية، الذي يجمع وسائط إلكترونية متعدّدة، صوتيّة وصوريّة وحركيّة، قد بدأ يمثل عندنا، عرباً، حاجة ملحّة للإقدام على مزاولته أم لا، مع العلم أن أمر التعاطي معه، بحسب البعض، قد بدأ منذ العام 2001، وإن بشكل نادر جداً.. ومتقطع جداً. لكنني مع ذلك أسمع، ولا أجزم بالطبع، أنّ ما يسمى بـ«الشعر الرقمي»، هو الآخر يمر بمرحلة صعبة الآن، وحتى قبل أنّ تكتمل دورته التجريبية المطلوبة. جنينة آدم عن آخر محطاته الشعرية.. أين هو سؤاله الشعري اليوم، يجيب عباس بيضون: لا يسعني في الحقيقة الكلام النقدي على قصيدتي الحالية. كل ما يمكنني قوله إنّ لديّ مجموعة شعرية سيكون عنوانها: «جنينة آدم»؛ نصوصها على ما أتصور، ستعبّر عن هذا التزاوج الطافح بين اللغة غير القاموسيّة السائدة، وذلكم الغناء غير الصدّاح. والنصوص ستحتفي بموضوعات من خارج الفضاء المعتاد، وتميل عموماً إلى الجزئي والنسبي والكيفي الذي تفترضه الحالة، مُجهزة بالتأكيد على هيمنة الأسلوب الكتابي الواحد، وقد تفككه وتذرّره بالكامل أحياناً. وعما إذا كان يتجه إلى كتابة قصيدة كيفية عمل القصيدة، أو كتابة النص ببنيته المستقلة بذاتها وقوانينها ونظمها الأسلوبيّة الداخليّة التي تبعثر الشاعر في النتيجة كما تبعثر القارئ، يقول بيضون: لا أدري.. ربما يكون كلامك هذا صحيحاً وملائماً.. أو العكس. المهم في النتيجة أن تحتفي بنا الكتابة أو نحتفي بها.. لا فرق. أما إذا كان قد فكرت يوماً في أن يكون صاحب مشروع شعري، يجيب: أظنّ أنني، ومنذ أن عدت إلى كتابة الشعر بعد طول انقطاع عنها دام سنوات (كما أسلفت لك)، وأنا في حال اهتمام فاعلة ومتفاعلة بالقصيدة، غناءً وفكراً. وهذا الهمّ الشعري أفضى بي إلى إنتاج ما يعادل 18 مجموعة شعرية، أعتقد أنها تشكّل مجتمعةً، مشروعاً شعرياً بحاله، وسترفده، بالتأكيد، مجموعات شعرية لاحقة لي، من شأنها أن تعزّزه وتغني عنوان حضوره. الشعر الرقمي حول ما يسمى بـ«الشعر الرقمي» أو«الثقافة الرقمية»، يقول عباس بيضون: لست في معرض الاعتراض على تجارب أحد من الأجيال الشعرية أو الأدبية الرقمية عندنا، وفي العالم.. نعم، لست على الضدّ من محاولات إنتاجهم الإبداعي بمختلف الوسائط والأدوات الرقمية وغير الرقمية التي يختارونها، سواء أكانوا شعراء أم روائيّين أم مسرحيّين.. إلخ. لكن، في المقابل، ليس كل نص شعري أو أدبي يُكتب بوسيط رقمي، يكتسب بالضرورة صفة التجاوز الإبداعي أو التحديثي.. وأنّ مبدعه، مثلاً، بات لا يحتاج إلّا إلى «ناقد رقمي متخصّص» ليقوّم تجربته ويحكم عليها؛ وأن كلّ عملية نقد أيضاً من خارج الفضاء الرقمي السبّراني وأدواته، هي قاصرة وغير مؤهلة بالضرورة، ولا شأن لها بالتقييم والتعيين. ما ينبغي التوكيد عليه، أننا حتى الآن، لا نجد أيّ تراكم جدّي يذكر للنصوص الشعرية أو الأدبية الرقمية في البلدان التي تنتج التكنولوجيا المتقدمة، ليُصار بعد ذلك إلى نقدها والحكم عليها واستطراداً تصنيفها من ضمن تيار شعري أو أدبي رقمي معين، فكيف بك في بلداننا العربية وبين شرائح شعرائنا وكتّابنا؟!. هكذا، فالنماذج الإبداعية المعتبرة للكتابة الأدبيّة الرقميّة لم تتبلور كفاية بعد، لا عندنا ولا عند غيرنا، حتى يتمّ تداولها برؤية نقدية جدّية وتُظهر في الوقت نفسه أحكام القيمة الاعتبارية عليها. وهكذا من المبكّر جداً الحديث عن معانقة أنواع شعريّة وأدبيّة رقميّة تفرض نفسها بقوة علينا.

مشاركة :